لم يكن ليشكل خروج التيار الإسلامي الإخواني من الحكم في مصر تراجعاً حقيقياً لمواقعه الشعبية لو أن ذلك تم فقط بفعل إنقلاب الجيش على حكم الرئيس مرسي. ولكن الإنقلاب كان مصاحباً لحالة غضب شعبي من حكمه، وما كان الجيش ليجرؤ على القيام بعزل الرئيس المنتخب، وإنهاء إعتصام رابعة بالقوة، والزج بالآلاف من أعضاء تنظيم الإخوان في المعتقلات لو كان هنالك تأييد شعبي حقيقي لهم.
على موقعه الخاص بالتواصل الإحتماعي، كتب أحد الأصدقاء من إخوان مصر ما يلي: لم نتوقع يوماً أن يقوم هؤلاء الفقراء، الذين قدمنا لهم المساعدات على مدار سنوات طويلة، بتسليمنا لأجهزة الأمن والاعتداء علينا.
لم يخسر الإخوان شعبيتهم بعد إستلامهم للحكم لأنهم تخلوا عن شيء كانوا يعتقدونه في السابق، ولكن بسبب عدم إنحيازهم لقوى الثورة الحقيقية التي أخرجت الناس للشارع يوم ٢٥ يناير، وبسبب تحالفهم مع التيار السلفي، ومحاولاتهم إسترضاء وإحتواء بيروقراطية الدولة والشرطة والجيش على حساب مصالح الغالبية العظمى من المصريين.
لقد قدم الإخوان كل التنازلات الممكنة لخصوم الثورة مقابل الاحتفاظ بالسلطة، لكنهم لم لم ينحازوا لفقراء شعبهم، ولم يقدموا تنازلاً واحداً للقوى التى جعلت الثورة ممكنة.
لذلك لم يكن من الصعب أن تعادي هذه القوى الإخوان، وأن ينحاز بعضها للجيش في مشهد لا ينسجم مع فكرة الدولة المدنية التي كانت تدعو لها هذه القوى. بالمحصلة وجد الإخوان أنفسهم وحيدين في مواجهة أجهزة الدولة القديمة.
ولأنهم لم يدركوا التراجع الهائل الذي حدث لشعبيتهم فقط إستكملوا أخطائهم بإعتصام رابعة، والدعوة لإقامة الدولة الإسلامية دون أن يقفوا ليفكروا للحظة واحدة بالأسباب التي أدت لإنهيار حكمهم مبكراً وبتخلي الناس عنهم. واستكملوا أخطائهم بعد فشل مشروعهم بإعادة الشرعية بأن نقلوا الصراع الى داخل تنظيمهم. فريق يريد التسوية مع الدولة للعودة للهامش الذي وضعه نظام مبارك القديم لهم، وفريق يريد البقاء في حالة صراع مع الدولة لكن دون إجراء مراجعه للأخطاء السابقة.
في الحالتين لا يبدو أن للفريقين شعبيه كبيرة داخل التنظيم الذي يبدو ممزقاً بين العديد من الأفكار: البعض يرى بأن المشكله تكمن في الاقتراب من السياسة وأن سر نجاح الإخوان السابق كان في الإهتمام بالدعوة وليس السياسة. والبعض يرى أن المشكلة هي أن الإخوان لم يقوموا بإنشاء تنظيم مسلح ليدافع عن حكمهم كما فعل الخميني عندما شكل الحرس الثوري. وآخرون يرون أن المشكلة كانت في "تعيين وزير الدفاع الذي خدعهم بصيامه أيام الإثنين والخميس والذي كان يقيم الصلاة في مواعيدها". وهنالك بالتأكيد من يعتقد بأن المشكله كانت في إنحيازات الإخوان ما بعد الثورة. وهنالك فريق يرى أن داعش والقاعدة محقتان بأن أحداً لن يمكن المسلمين من إقامة دولتهم وأن الطريق الوحيد لذلك هو العنف.
باختصار، مشهد الإخوان في مصر مأساوي: هم لم يعودوا فريقاً واحداً، ولا تستطيع جماعة واحدة داخل التنظيم ضمان ولاء الأعضاء لها. لهذا سيستمر نزيف جماعة الإخوان الداخلي ولن تتمكن من إعادة بناء قواعدها الشعبية في المدى القريب.
مشهد الإخوان في الدول العربية الأخرى لا يبدو مختلفاً. في الأردن توجد اليوم على الأقل مجموعتان تتصارعان فيما بينها بشكل علني وكلاهما يحاول الحصول على الشرعية من الدولة. في سورية لا يبدو بأن الإخوان قد حققوا أي نجاحات في قيادة المعارضة الإسلامية على الرغم من تأييد تركيا لهم. وفي اليمن يخوض الإخوان ليس صراعاً على الحكم، ولكن صراعاً على الوجود في دائرة القرار المتعلق بالحكم. تماماً مثلما كان حالهم أيام التحالف مع العقيد علي عبد الله صالح.
هذا المشهد لا يمكن أن يكون في مصلحة أحد في العالم العربي لأن حالة الفراغ تستدعي بالضرورة قوى لملئها ولا يبدو بأن هناك قوى حقيقية ديمقراطية في العالم العربي قادرة على كسب تأييد الجمهور لها. القوى الموجودة حالياً هي إمتداد لتنظيمات لا تشكل الديمقراطية برنامجاً لها، والقوى الصاعدة هي تنظيمات إسلامية متطرفة تكتسب مساحات جديده في اليمن وليبيا والمعركة معها في سورية والعراق تبدو طويلة. وحتى لو ربحها النظامان السوري والعراقي فإن النتيجة لن تكون أكثر من الخلاص من الأسوأ ليبقى السيء ملازما للشعبين لفترة لا يعلمها إلا الله.
عودة الإخوان إذاً للعب دور مركزي في المعارضة يبدو ضرورياً لمنع القوى المتطرفة من إكتساب مواقع وساحات جديدة، ولضمان عدم هيمنه الخطاب الإسلامي المتطرف على الشباب في العالم العربي. لكن حتى تكون عودة الإخوان ذات قيمة، بمعنى عودة بإمتداد شعبي وتأثر إيجابي على العرب، فإن على الإخوان إتخاذ ثلاثة قرارات تتعلق بخطابهم للجمهور:
الأول: أن يتبنوا خطاباً واضحاً لا لبس فيه من الحركات الإسلامية المتطرفة. بمعنى التوقف عن سياسة الصمت التي يمارسونها الآن تجاه هذه الحركات مثلما هو الحال تجاه موقفهم من ولاية الدولة الإسلامية في سيناء، أو التعاون معها مثلما يجري في الساحتين السورية واليمنية.
الثاني: أن ينحازوا فعلاً لمفهوم المواطنة بكل ما في الكلمة من معنى. الإدعاء بالإستعداد للتبادل السلمي للسلطة ليس بديلاً عن القبول بمبدأ المساواة في الحقوق والحريات. يترتب على ذلك مراجعة صريحة وعلنية لأخطائهم خلال المرحلة السابقة تفتح الطريق لعودة التحالفات مع شركاء الثورات والهبات الشعبية.
الثالث: أن ينحازوا لمحاربة الطائفية أياً كان مصدرها، لا أن يتغذوا عليها كما هو حالهم اليوم. الطائفية هي الخطر الحقيقي الذي يهدد تماسك الشعوب العربية اليوم، والتخلي عن التصدي لهذه المهمة معناه القبول الضمني بالحروب الأهلية التي تشهدها المنطقة العربية.
إذا تبنى الإخوان خطابا معاديا للحركات المتطرفة، معاديا للطائفية، ويركز على الحق في المواطنه للجميع، فإن إستعادتهم لشعبيتهم ممكنه وقد تكون أسرع مما نعتقد، وفي ذلك مصلحة لجميع العرب.


