خبر : من عز الدين القسام إلى نشأت ملحم ...عوني فرسخ

السبت 16 يناير 2016 08:45 ص / بتوقيت القدس +2GMT





في يوم الاثنين 20-11-1935 طوق أحراج يعبد قرب جنين 400 شرطي إنجليزي وعربي، تصحبهم بعض عناصر الهاغاناة، حيث كان الشيخ عز الدين القسام قد التجأ مع عدد من صحبه. وحين كشف أمرهم طالبهم أحد الضباط العرب الاستسلام حقناً لدمائهم فقرر الشيخ المجاهد وصحبه صنع أمثولة استشهادية تشكل رافعة للحراك الوطني الذي كان يعاني ركوداً وانقسام نخبه السياسية القائدة. وعليه دخلوا معركة غير متكافئة من حيث الرجال والسلاح، فاستشهد القسام وأربعة من مرافقيه، وألقي القبض على جريحين وخمسة آخرين، فيما نجح الشيخ فرحان السعدي وبقية المجاهدين الذين رافقوا القسام في الإفلات من الحصار بأعجوبة.
وكان للأمثولة الاستشهادية الشجاعة ردة فعل جماهيرية غاضبة، فرضت على حكومة الانتداب التراجع عن ادعائها بأن الشهداء «مجموعة من الأشقياء» كما ورد في بيانها الأول. فيما قامت القوى الوطنية والجماهير بتشييع الشهداء في موكب جنائزي مهيب، حاملة نعوش الشهداء على الأكف مسافة خمسة كيلو مترات من حيفا الى بلد الشيخ، اشتبك خلالها المشيعون بالشرطة والجنود البريطانيين دون مبالاة بالرصاص الذي انهمر عليهم وسقوط عدد من الشهداء والجرحى (أكرم زعيتر: وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية 1918 - 1939 ص 397 - 405)
ولقد لخص جمال الحسيني، زعيم الحزب العربي، الأثر الذي تركه استشهاد القسام وأصحابه في النفوس. إذ بعد زيارة بيت عبدالله الزيباري، رفيق القسام في استشهاده، وما لمسه من فقر عصبة القسام وبؤس عائلاتهم، كتب في صحيفة الحزب يوم 7-1-1936 يقول: ثورة القسام ثورة علينا جميعاً، شباناً وشيوخاً وكهولاً، إذ يقول كل واحد منا في قلبي إيمان وفي نفسي إخلاص، ولكني مثقل وورائي عائلة كبيرة أخاف عليها إن خرجت أن يتخطفهم الذل والعار والموت وليس عندي ما يدفع عوادي الزمن. يسمع القسام وصحبه هذا فيثورون عليه ويخرجون، يخرجون عمن؟ عن أعشاش فيها قطع من اللحم كأفراخ العصافير ينتظر كل منها معيله ليلقي في منقاره ما يسد جوعه ويروي عطشه، فيندفع القسام وصحبه من تلك الأعشاش لتثبيت المبدأ وإحقاق الحق وإعلاء شأن الإيمان. ونحن إذ نرى منهم ذلك لا يسعنا إلا أن نشعر بتأنيب الضمير واحمرار الوجوه، فندعو الله أن ينير قلوبنا بهذا الإيمان (بيان نويهض الحوت: القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917 - 1948 ص 323).
وكان ابن غوريون قد فوجىء باستشهاد القسام وجنازته، إذ كان حتى ذلك الحين على يقين بأن أي زعيم عربي مستعد لبيع الشعب العربي كله مقابل تأمين مصالحه الذاتية، وأن العرب لا يحترمون زعماءهم، إلا أنه وجد في الشهيد القسام قائداً عربياً يضحي بنفسه من أجل المبدأ، ورأى في استشهاده ما يمنح العرب قوة أخلاقية لم يكن يظن أنها متوفرة لديهم وانتهى إلى تقدير أن استشهاد القسام سوف يؤدي الى حوادث عدة، وأن آلاف الشباب سوف يمضون على درب القسام، وأن ذلك سوف يضع بريطانيا والحركة الصهيونية أمام نقله نوعية في الصراع مع عرب فلسطين ومحيطهم القومي، الذي بدأ يعطي تلميحات بأن لا مناص من الدخول في مجابهة مع بريطانيا (شبتاي تيبت: بن غوريون والعرب، ترجمة دار الجليل - عمان ص 200). وتفجرت الثورة بعد خمسة شهور وكان القساميون أبرز قادتها.
وبعد ثمانين عاماً من أمثولة القسام الاستشهادية نجح الشهيد نشأت ملحم، من قرية عرعرة في شمال المثلث الذي فرض منع التجول على تل أبيب إثر العملية التي نفذها في شارع ديزينغوف، أهم شوارعها، وأردى قتيلين أحدهما مسؤول العمليات الخارجية في «الموساد» وسبعة جرحى «إسرائيليين»، وبتمكنه من الاختفاء فرض على مركز ثقل التجمع الاستيطاني الصهيوني حالة من الهلع والترقب والحذر. إذ إن ما يجاوز مليوناً من السكان لزموا بيوتهم، فيما تغيب أكثر من نصف أبنائهم عن مدارسهم. وبحيث إن حالة رعب وقلق الصهاينة الشائعة في القدس ومستوطنات الضفة الغربية قد امتدت إلى تل أبيب وضواحيها.
وبهذا تكون القوى والعناصر الملتزمة بالمقاومة خياراً استراتيجياً لم تفقد «إسرائيل» قوة ردعها، وفرضت عليها ردعاً متبادلاً في شمالها وجنوبها فحسب، وإنما جعلت منها الدولة الأكثر مدعاة لقلق اليهودي وخوفه على حاضره ومستقبله، أي حولتها إلى غيتو يهود خائفين، حتى وهم يرتدون الزي العسكري، ويمتلكون أحد أقوى الجيوش في العالم المعاصر، ويحوزون السلاح الذري. كما سبق أن قال يوري افنيري قبل بضع سنوات.
وأن يكون الشهيد نشأت ملحم أسيراً محرراً، فهو بالتأكيد كان خاضعاً حيثما تحرك في نهاره وليله لرقابة ومتابعة أجهزة الأمن «الإسرائيلية» ومستعربيها وعملائها. وبرغم ذلك نجح في الحصول على السلاح، والاحتفاظ به، وحمله إلى قلب تل أبيب، وينفذ عمليته، ثم يختفي دون أن يتخلى عن سلاحه ثمانية أيام، ويعود الى قريته عرعرة في المثلث. كل ذلك لا يدل فقط على فشل أجهزة الاستخبارات «الإسرائيلية» المريع، وإنما أيضاً على التطور الكيفي في أداء وقدرات الشباب الفلسطيني الملتزم بخيار التصدي والمقاومة.
وفي حكم المؤكد أن يغدو البطل الشهيد نشأت ملحم قدوة لآلاف شباب وصبايا الأرض المحتلة سنة 1948، الذين يعانون في صبحهم ومسائهم الممارسات العنصرية الصهيونية. بحيث يقتدون بالشهيد نشأت ملحم وبالتالي يغدو أغلبيتهم موضوع قلق وتحسب محيطهم «الإسرائيلي». ويقيناً أن نتنياهو وأركان حكومته وجيشه وأجهزته سيضاعفون إجراءات القمع ما يشكل تحدياً يستفز إرادة الممانعة والمقاومة في عمق الأرض المحتلة سنة 1948. وقد بدأت تظهر مؤشرات التمرد على آلة القمع الصهيونية، كما تجلى بتظاهرة أهالي عرعرة احتجاجاً على اغتيال بطلهم.
وحين تتزامن أمثولة الشهيد البطل مع ما ذكر من تحسن مستوى التنسيق الأمني بين أجهزة سلطة حكم الذات في الضفة الغربية المحتلة وأجهزة الأمن «الإسرائيلية» المتعددة بعد قرابة أربعة شهور من تفجر انتفاضة أطفال السكاكين فهذا دليل فاضح على بؤس واقع السلطة وكوادرها، صغيرهم وكبيرهم، الذين باتت وظيفتهم الوحيدة حماية «أمن» الصهاينة، مقابل العيش الذليل على فتات «معونات» رعاة المشروع الصهيوني الأمريكيين والأوروبيين، من دون أن يبدر عن أحد من كبارهم تبكيت ضمير أو إحمرار وجه.
عن الخليج الاماراتية