ما يخيف الاسرائيليين ليس بالضرورة يخيف الامريكيين. بما في ذلك اولئك الذين بحكم رزقهم يتابعون عن كثب مشاكل الشرق الاوسط. فأمام صور القتل في سوريا، في العراق، في تركيا وفي افغانستان تتقزم الصور من اسرائيل.
الرعب، الغضب، التعابير الحماسية، السكاكين الفلسطينية، المسدس الاسرائيلي، تشويش الحياة، فقدان السيطرة، كل ما يقض مضاجعنا هذه الايام، لا يقول الكثير للاجانب. فموجات الارهاب في الماضي أثارت الهزة لانها هددت بهدم مسيرة استثمرت فيها الادارات الامريكية افضل قواها. اما في الوضع الحالي فليس ثمة ما يهدم، ليس ثمة ما يعزز، ليس ثمة ما ينقذ.
انتفاضات تخبو، موجات ارهاب تنسى؛ هذا ما علمتنا اياه تجربة الماضي. فتواتر العمليات وانتشارها عسير على الهضم، ولكن مثلما في كل روتين، كلما تواصلت الاحداث، تقل الصدمة، وكلما قلت الصدمة، هبط الدافع لمواصلة الاصابة. هذا هو السيناريو الايجابي الوحيد الذي يمكن تصوره.
السؤال الكبير هو في أي وضع سنكون عندما ستخبو الموجة، ما الذي ستحدثه للمجتمع الاسرائيلي، لحصانته الداخلية، للقيم الاخلاقية، لمكانته في العالم، ما الذي ستحدثه للفلسطينيين. في هذه الاثناء فانها تخرج من الطرفين اسوأ ما لديهما.
عندما يقتل الفلسطينيون والاسرائيليون، الزبونان اللذان يعتمدان على طاولة الولايات المتحدة، الواحد الاخر، يفترض بالادارة أن تفعل شيئا ما. هذا ما هو متوقع منها، هذا ما درجت على عمله في الماضي. ليس هكذا الان. سمعت هنا من أكثر من شخص واحد التقدير العسير التالي: "ينبغي أن يكون الحال اسوأ بكثير كي يكون افضل لاحقا".
المسؤول الكبير الوحيد في الادارة الامريكية الذي لا يزال يؤمن بانه يمكن الوصول الى اتفاق بين الاسرائيليين والفلسطينيين هو وزير الخارجية جون كيري. لكيري حلم، وهو لن يدع الواقع يخربه. عشية لقائه بنتنياهو، في برلين أمس، دعا الى استئناف المفاوضات الان، بل وعلل: زمن إدارة اوباما محدود، والوقت يلح.
الوقت يلح لكيري ولكنه لا يلح لاوباما. فاحدى القواعد الحديدية في الادارات الامريكية تقول ان كل قوة وزير الخارجية تكمن في أن الرئيس يقف خلفه. فبلا دعم الرئيس فانه شمشون بلا قوة، وبوباي بلا سبانخ. ولكن في كل ما يتعلق في هذه اللحظة بنزاعنا، كيري في جهة، واوباما في جهة اخرى.
اوباما مقتنع بانه طالما كان نتنياهو على رأس حكومة اسرائيل، فلن يكون أي تقدم ايجابي بين الاسرائيليين والفلسطينيين. خسارة على الوقت. ووافق على السماح لكيري بالسفر الى برلين وعمان فقط لان انعدام العمل كان سيجر انتقادا. والمهامة التي اخذها كيري على عاتقه كانت العمل على نشر تصريح يكون مقبولا من نتنياهو، ابو مازن والملك عبدالله. وسيتضمن التصريح التزاما بالحفاظ على الوضع الراهن في الحرم.
الى أن انطلق كيري على الدرب، حتى اصبح التصريح غير ذي صلة. وحتى لو تحقق، فانه لن يعيد أي سكين الى المطبخ. فهل يمكن للضغط الامريكي أن يلطف التحريض، سألت احد موظفي الادارة. ذكرت في هذا السياق التصريحات الاخيرة لابو مازن. فاجاب: البشرى الطيبة هي أن احدا لم يعد يستمع الى ابو مازن". انت مخطيء، قلت. نتنياهو يستمع اليه. هو الوحيد الذي يستمع ويقتبس كل كلمة.
التحريض هو بالفعل سلاح فتاك. فهو يسمم نفوس الفلسطينيين منذ عهد المفتي الحاج أمين الحسيني وحتى اليوم. ولكنه ليس وحده: من حرض ناخبيه على التوجه الى صناديق الاقتراع بسبب باصات العرب التي لم تكن، لا يمكنه أن يدعي التفوق الاخلاقي على ابو مازن. هذا يحرض وذاك يحرض. وكلاهما فقدا القدرة على التمييز بين الحقيقة والكذب، بين الاعلام والتحريض. واحد ينفي الارهاب. والاخر يشوه الكارثة. والبشرى السيئة هي انه خلافا للفلسطينيين، الذين كفوا منذ زمن بعيد عن الاستماع الى ابو مازن، فان اسرائيليين غير قليلين يستمعون الى نتنياهو، ليبرمان، بينيت، لفين، بركات. وهم يقنعون أنفسهم بانهم مثل جيمز بوند. الحكومة أعطتهم رخصة للقتل.
إذن ما الذي مع ذلك يمكن عمله؟ في المداولات الداخلية في الادارة الامريكية طرحت افكار مختلفة، وكلها استبعدت تماما. مبادرة من الرئيس الان ستعود اليه كالسهم المرتد: الرد الوحيد سيكون عمليات اخرى وشماتة لدى خصومه الجمهوريين. الرئيس يمكنه أن يلقي خطابا يرسم فيه رؤياه للمستقبل. مسودة مثل هذا الخطاب موضوعة لدى كيري منذ فشل مبادرته.
يوم الخطاب سيأتي، على لسان كيري أو لسان اوباما. وهما لن يحزما الحقائب قبل أن يقولا كلمتهما. ولكن ليس عندما تلاحق العملية العملية الاخرى. في الوضع الحالي ليس لرئيس، فما بالك لوزير خارجته الى أين يوصلان صوتهما.
آخر العزف
مسألة واحدة يمكن لنتنياهو أن يسجل لنفسه فيها نجاحا. الكفاح العنيد الذي أداره في الكونغرس ضد الاتفاق مع ايران أجبر اوباما على ان يتعهد للسناتورات الديمقراطيين بمنح اسرائيل رزمة تعويض أكبر بكثير، اكثر سخاء مما قصد منحها اياه في البداية.
كان الثمن باهظا: شرخ عميق داخل قيادة الجالية اليهودية، ابتعاد قسم كبير من الديمقراطيين في المجلسين عن اسرائيل والمس بقوة ومكانة ايباك، اللوبي المؤيد لاسرائيل. ومع ذلك، فلا يمكن تجاهل المردود.
لقد تعهد نتنياهو امام الادارة بان يشطب الموضوع الايراني عن جدول الاعمال. وكان الخطاب في الجمعية العمومية للامم المتحدة آخر العزف. وقد أوفى بتعهده. عشية اقرار الاتفاق هدد الجمهوريون باقرار عقوبات جديدة ضد ايران. ولكن التهديدات لم تتحقق. فالجمهوريون منشغلون الى ما فوق رؤوسهم بالنزاعات الداخلية، والايرانيون ينفذون حاليا بطاعة كل بنود الاتفاق.
يفقد الكوابح
التصريحات البائسة التي اطلقها نتنياهو في موضوع مسؤولية مفتي القدس عن الكارثة أدت هنا، في واشنطن الى رفع حاجب بابتسامة، من النوع الذي يحصل عندما يفشل سياسي ما بزلة لسان محرجة أو تلتقط له صورة بينما الناظور مسدود. يخيل لي ان في هذه الحالة يمكن البحث عن الاسباب في مستوى أعمق. فالميل لتحميل العرب أو الاسلام الذنب في كل خطايا اوروبا ليس غريبا عن اليمين المتطرف الاوروبي. هذه لاسامية بلباس آخر: فهي تستبدل ذنب اليهود الساميين بذنب العرب الساميين. كم هو بسيط. كم هو مريح. كم هو كاذب.
نعم، الشارع الفلسطيني يكره الاسرائيليين. مأساة مسيرة اوسلو هي أنه بدلا من تبديد الكراهية، فاقمتها فقط. نعم، الفلسطينيون يرون في اليهود جهة غريبة، استعمارية، في الشرق الاوسط، جهة مصيرها الاختفاء. هذا صحيح للاولاد في المدارس وصحيح للمندوبين الفلسطينيين الى المفاوضات. جلست ذات مرة في حديث مع اولاد في مدرسة في شرق القدس. كان الموضوع هو السلام. "انا اصلي للسلام"، قال ولد لطيف، ذكي. "كل يهودي جاء الى البلاد بعد 1920 يغادر، وعندها نصنع ببهجة السلام مع الجميع".
الكراهية لاسرائيل حقيقية. نحن نعود ونكتشف بين الحين والاخر بان الكراهية لاسرائيل أقوى من التطلع الى الحياة الطبيعية، اقوى حتى من التطلع الى الاستقلال. ولكن المشاعر في جهة وحسابات الضرر في جهة اخرى. العرب اسوأ من الالمان، كتبت ذات مرة، فنانة بارزة في اليمين الاسرائيلي. لقد نسيت بان عدد كل الاسرائيليين الذين سقطوا ضحايا في كل سنوات الدولة لا يصل الى انتاج ساعة عمل في محارق اوشفتس.
نتنياهو حصل في الانتخابات الاخيرة على 30 مقعد. وكان الانجاز مثيرا. ولكنه فقد ايضا شيئا ما – الكوابح التي ساعدته لان يضع سدا امامه. لقد حصل له هذا في الاشهر التي سبقت اغتيال رابين ويحصل له مرة اخرى في الاشهر الاخيرة. بلاغته أقوى منه. كراهياته، مخاوفه، حساباته الشخصية والسياسية تفوق المسؤولية الوطنية، تفوق الحقيقة ايضا.


