القدس المحتلة سمابعد أسبوعين من نشوب موجة العنف الحالية، بدأت معالمها العامة في التبلور. القدس الشرقية هي الصانع المركزي للمواجهات. فحولها، خصوصاً بسبب المخاوف الفلسطينية من خطوات إسرائيلية من طرف واحد في الحرم القدسي، نشب العنف. ومن القدس الشرقية لا يزال يخرج معظم المخربين لتنفيذ عمليات طعن ودهس.
والدور القيادي للقدس في المواجهة فاجأ رجال الاستخبارات ومختلف الخبراء في الشؤون الفلسطينية. وقد كان بين هؤلاء مَن توقع نشوب احتجاجات. كان بينهم من فهم مغزى الغضب الكامن، المتراكم، في صفوف الفلسطينيين بعد حوالي خمسة عقود من الاحتلال الإسرائيلي في ضوء مشاعر انعدام المخرج التام، السياسي والاقتصادي. وفي المداولات الأسبوعية التي تجري في قمة المؤسسة الأمنية جرى أيضاً ذكر العواقب المحتملة للاحتكاك الذي لا يتوقف مع الجيش والمستوطنين في المنطقتين «ب» و «ج»، واللتين لم يحظَ فيهما السكان ولو تظاهرياً بأي حماية من جانب السلطة في رام الله. وقد جرى بالعمق بحث التأثيرات المحتملة للهزة في العالم العربي، خصوصا الأعمال الفظيعة، المشتعلة بجنون ديني، لقتلة الدولة الإسلامية (داعش).
وعلى مدى العامين الأخيرين كانت تذكر المخاطر حتى أمام المستوى السياسي، الذي كان في الغالب واثقاً بقدرته على مواصلة إدارة الوضع القائم من دون أن يقود الأمور نحو انفجار. وعندما تولّى غادي آيزنكوت منصب رئيس أركان الجيش، في منتصف شباط الفائت، خرج في جولات أولية في فرقة غزة وفرقة يهودا والسامرة. وقال للضباط هناك إن حزب الله هو العدو الأخطر الذي يواجه الجيش الإسرائيلي. ولكن الجبهة التي كان متوقعاً أن تشتعل أولاً هي الجبهة الفلسطينية.
لكن ما لم يتمّ توقّعه، ولم يجر فهمه (ومشكوك إن كان بالوسع أصلاً توصيفه مسبقاً)، هو الشكل الذي سيخرج فيه شباب القدس الشرقية، خصوصاً من أبناء سن العشرين وما دون، من حملة الهويات الإسرائيلية والمتحدثين بلغة عبرية جيدة، ليأخذوا بأيديهم زمام المبادرة ويواصلوا الهجوم، يوماً بعد يوم، على المدنيين ورجال الشرطة. وكل ذلك، بعلم واضح أن هناك خطراً عالياً بأن يتعرّضوا لإطلاق نار أو أن يُضربوا حتى الموت خلال دقائق معدودة من لحظة إشهارهم السكين. إن هذا الجيل، الذي يبدي استعداداً مفاجئاً للتضحية المطلقة، العمياء، هو أيضاً الجيل الذي بالكاد يتذكّر مشاهد الانتفاضة الثانية. فمن كان في الخامسة، أو في السابعة أو العاشرة، من عمره في آخر مرة سارت فيها الدبابات الإسرائيلية في شوارع رام الله وطوّقت المقاطعة، يميل كما يبدو أقل من غيره إلى أن يأخذ بالحسبان ثمن تفجير آخر لدى الجانب الفلسطيني. وحتى هذه الآونة، لا يرتدع أبناء القدس الشرقية من ذلك. فهم يجرّون خلفهم إلى داخل الدوامة أيضاً شباناً آخرين، في الضفة والقطاع، ومعهم أيضاً قيادة السلطة، التي تنجرّ خلف الأحداث من دون أن تبدي أي قدرة فعلية على السيطرة عليها.
وتمتد خطوط الدفاع الإسرائيلية حالياً حول الأحياء والقرى في القدس الشرقية. وقد عززت الشرطة قواتها المنتشرة حولها وأقامت حواجز في جزء من المداخل، بشكل يسمح لها بفحص الداخلين والخارجين عبرها سيراً على الأقدام أو بالسيارات. ونشر الجيش الإسرائيلي وحدات ووسائل رصد ومراقبة لمساعدة الشرطة. ولكن جودة شبكة الأمن المنتشرة ستكون مثقوبة، جراء كبر مساحة المنطقة، وعدد المسارات الخارجة منها وطبيعة التدابير المختلفة التي يمكن استخدامها في القدس الشرقية مقارنة بالضفة الغربية.
ولا يزال دخول الشرطة حتى الآن نوعاً من إظهار قوة رادعة (ومن الجانب الإسرائيلي، ربما قوة تحتاج إلى أمن)، أكثر من كونها حلاً عملياتياً مناسباً. فقد هاجم مخرّبان في القدس الغربية وفي منطقة التماس يوم أمس الأول، بعد نشر الحواجز وتعزيز القوت. واستخدام تعابير مثل الإغلاق وفرض الطوق هي تعابير تلائم أكثر الضفة الغربية وليس القدس وهي تخلق انطباعاً مضللاً بالسيطرة التامة على الوضع. والحقيقة هي أن قوات الأمن لا تزال تواجه توصيفات الوضع الجديد وبلورة السبيل المناسب لمعالجة ذلك.
وفي مركز ذلك يوجد الشبان الصغار من القدس الشرقية. وطوال العقد الأخير كانوا يعملون ويسهرون في غرب المدينة، وأحياناً في مدن إسرائيلية أخرى. وهكذا، فإن خريطة العمليات أيضاً تنتشر وتتوسّع وفقاً لذلك، أيضاً نحو مدن مثل رعنانا وكريات غات (حيث إن المخرب الذي عمل هناك كان من سكان منطقة الخليل) المعروفة لمنفذي العمليات من عملهم هناك. ومن بين 24 مخرباً نفذوا عمليات طعن ودهس في الأسبوعين الأخيرين (وقعت أيضاً عملية إطلاق نار قاتلة لقي فيها الزوجان هنكين مصرعهما وكذلك محاولة لتفجير عبوة مرتجلة قرب معاليه أدوميم)، فإن أكثر من 70 في المئة منهم كانوا من القدس الشرقية. وقد لعب سكان المدينة دوراً جوهرياً في الإرهاب حتى في الانتفاضة الثانية، ولكن أساساً كمساعدين لمخرّبين انتحاريين استغلوا حرية المقدسيين. والسكان الفلسطينيون في القدس الشرقية لم يسبق لهم أن كانوا مهيمنين في جبهة الإرهاب، كما يحدث منذ مطلع تشرين الأول.
وعدا عن اليأس والاعتراض، فإنهم يتشاركون، كالمتظاهرين في المدن الفلسطينية الأخرى، في الإيمان القاطع بوجود مؤامرة إسرائيلية للسيطرة على الحرم القدسي. وهذا الفهم، هبط متأخراً، أيضاً على رئيس الحكومة الذي قيد في النهاية صعود الوزراء وأعضاء الكنيست إلى الحرم. واستمرّ صعود زوار يهود آخرين بشكل يومي كالمعتاد، رغم المواجهات. ولكن رغم أفكار طرحت لدمج أكثف للأردن والسلطة في السيطرة على الحرم، يبدو أن هامش المناورة السياسي لبنيامين نتنياهو حالياً في هذا الشأن صار أضيق، طالما أن العنف يعربد (وكالعادة، إذا عاد الهدوء، سيختفي أيضاً الإحساس بالعجالة وخطوات التبريد التي تُدرس سيتم تجاهلها).
وحتى نهاية الأسبوع الثاني من العنف، لم تعد المؤسسة الأمنية مستعدّة للمجازفة بإصدار تاريخ يمكن تقديره لنهايته. وواضح لقادتها أن أموراً أساسية تغيّرت على الأرض وأن مصاعب كثيرة متوقعة قبل العودة للهدوء النسبي. ومن خلف العمليات تبدو روحاً سيئة، وليست يداً موجهة. والخطاب القصير للرئيس الفلسطيني، محمود عباس (أبو مازن) أمس الأول مساء بدا وكأنه إعلان هزيمة.
وقد ركز الإعلام الإسرائيلي على الكذبة الفظة لعباس، الذي اتّهم إسرائيل بإعدام الصبي المخرّب ابن الثالثة عشرة من عمره، الذي طعن هذا الأسبوع وجرح بشكل بليغ صبياً يهودياً في عمره في بسجات زئيف. ولكن من الزاوية الاستراتيجية بدا خطاب عباس ضعيفاً، متعباً، لزعيم يقترب على ما يبدو من نهاية طريقه السياسي. وكان في ذلك استمرار لخطابه في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، قبل أقل من ثلاثة أسابيع. صحيح أن عباس حقاً لم يعلن هناك أي انسحاب تامٍّ عن اتفاقيات أوسلو، كما توقّع البعض في البداية، لكن ظهر في كلامه تنازل عن كل شذرة أمل في المسار السياسي. ومن لحظة أن أغلق هذا المسار نهائياً، أخلى عباس الحلبة للشبان في شرقي القدس. وحينما خلعوا هذا القفاز، تبين أنها كانت سكيناً.
ولا تزال السلطة جهة ذات شأن خصوصاً في مناطق «أ» في الضفة، حيث تكبح أجهزة الأمن جزءاً من المسيرات المتوجهة نحو حواجز الجيش الإسرائيلي ونحو المستوطنات، وهي تواصل يومياً اعتقال نشطاء حماس. وحالياً، العلاقات الاقتصادية بين الطرفين تستمر كالمعتاد. فهناك حوالي 120 ألف فلسطيني من الضفة يعيشون على العمل بتصريح في إسرائيل وفي المستوطنات (إلى جانب حوالي 40 ألف عامل يعملون بشكل غير قانوني). ورغم التوتر سجل هذا الأسبوع انخفاض بنسبة 10 في المئة فقط في عدد من يصلون إلى أماكن عملهم. كما أن التجارة على جانبَي خط التماس في الضفة، والتي تُقدّر بحوالي 15 مليار شيكل سنوياً، تستمرّ كالمعتاد. وفي جولة في أحد المعابر، في مطلع الأسبوع، كان بالوسع رؤية كيف أن الآلة المزيّتة، مع كثرة ترتيبات الأمن التكنولوجي التي تبلورت في أعقاب الانتفاضة الثانية، تعمل كالمعتاد. ولكن تفاقم العنف واستمراره يمكن أن يقودا إلى شلل النشاط الاقتصادي وتوجيه ضربة قاضية للاقتصاد الفلسطيني، وهو ما اعتاد الجيش الإسرائيلي تسميته عشية الانتفاضة الثانية «ثمن الخسارة».
ورغم سجالات موضعية على الحاجة لفرض إغلاق على المناطق، فإن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لا تزال تتحدّث بصوت موحّد جداً. ورؤساؤها، بقيادة وزير الدفاع موشي يعلون ورئيس الأركان آيزنكوت، يؤيدون استمرار الفصل بين مكافحة المخرّبين وبين الحياة اليومية لمعظم السكان الفلسطينيين، عبر محاولة عدم تشويشها بشكل تامّ. فيعلون، آيزنكوت، رئيس الشاباك ونائبه، القائم بأعمال المفتش العام للشرطة والمفتش العام المعيّن، ونائب رئيس الأركان، وقادة المناطق اللوائية، منسق الأنشطة في المناطق ـ كل هؤلاء لعبوا دوراً مركزياً أيضاً في المواجهة السابقة مع الفلسطينيين. هناك، بعد ما فعلوا كل شيء، رأوا كل شيء واكتووا غير قليل، تبلورت استنتاجاتهم وكذلك تبلور فهم المزايا المحتملة في استعمال القوة، إلى جانب القرار بحدودها.
وتقريباً المجموعة ذاتها، في مناصب أدنى، خرجت تحت إمرة رئيس الحكومة أرييل شارون في عملية «السور الواقي»، حينما طفح الكيل بعد العمليات في آذار العام 2002. وهذا الأسبوع رفضت هيئة الأركان وقيادة الجبهة الوسطى بشدّة، وتقريباً باستخفاف، مطالب فرض النظام في القدس وفي المناطق عبر الخروج في عملية «السور الواقي 2». ومع حرية عمل عسكرية تامة على الأرض، مقابل بنى إرهاب تقريباً غير موجودة بشكل منتظم، ومخرّبين يفضلون في هذه المرحلة استخدام السكاكين أكثر من استخدام البنادق، والجيش لا يرى حاجة لذلك. وسئل قائد لواء في الضفة هذا الأسبوع عن عدد الفلسطينيين المطلوبين في المنطقة الواقعة تحت مسؤوليته. ردّ: «واحد»، مخرّب هاجم وأفلح بالفرار، و«في لحظة أن يجلب الشاباك اسمه، نذهب ونقوم باعتقاله».
وتجسّد الأحداث والتصريحات فجوة الأقدمية والجدية بين المستوى المهني والمستوى السياسي في إسرائيل. ليس فقط أن الشبان الفلسطينيين جدد في القصة، بل أيضاً هناك قسم كبير من الوزراء وأعضاء الكنيست جدد رغم أن بينهم من يعرفون الدروس والعبر ويرفضون تبنيها. وقد فقد بعض رجال السياسة قصداً التوازن، كما لو أن الموجة المفجعة لعمليات الطعن باتت توازن في أضرارها عمليات الانتحاريين في الانتفاضة الثانية.
وقد فوجئوا هذا الأسبوع في الجيش عندما اكتشفوا، مثلاً، أن إسرائيل مرة أخرى تحتجز وتتاجر بجثث مخرّبين، رغم أن الانشغال بذلك لم يحقق أية أرباح في الماضي. وحتى الآن، يستحيل ضبط كبار الضباط وهم يطلقون أية تصريحات متطرّفة. فالمواجهة مع الوضع القائم في الضفة والقطاع، والمساعدة للشرطة التي تواجه تحديات أصعب بكثير في القدس، تتم باتزان. كما أن القادة الميدانيين على الأرض يردّدون الحديث عن أهمية الحفاظ على نسيج الحياة، وأداء معقول للاقتصاد وللمجتمع الفلسطيني في كل المناطق التي ليست خطوط مواجهة.
في هذه الأثناء، المستوى المهني يقف كالسور في مواجهة الضغوط السياسية في هذا المجال، ولكن علينا أن نرى إن كانت هذه المقاربة ستصمُد في حال استمرار العمليات. فواحد من ستة أهداف وضعها آيزنكوت للجيش مع بداية ولايته كرئيس للأركان كان «العمل لمنع تصعيد واسع يورّط إسرائيل، من منطلق فهم الواقع الاستراتيجي الإقليمي: الحرب الأهلية في سوريا، وضع حزب الله، المواجهة بين الشيعة والسنة». وبنظرة للوراء، ربما من المؤسف أنهم نسَوا إطلاع الوزير أوري أرييل على ذلك.


