كمثل كلِّ صباح يحمل هموم أسرته وحال وطن لم يَعد فيه متنفس للجوعى والفقراء المبعثرون في كلِّ ركن من أركان الإهمال، والتناسي، وغض البصر، لينصب آنين أطفاله باحثًا عن بعض الشواقل تحت لهيب آب الحراق، يبستم تاره للأطفال وأخرى للكبار مستعطفهم ليعود أخر يومه حاملًا بضعًا من طعام يسد رمق ولا يشبع جوع ... أنه محمد أبو عاصي وما أكثر أمثاله الذين تعدوا الآلاف يبحثون عن رغيف خبز مغمس بالذل والهوان ... ولكن بطريق شرعي وأخلاقي، تحدى به كلّ مغريات الرذيلة والسقوط ووقف شاهدًا على كفاح الإنسان المقاتل لأجل الحياة نافضًا عنه كبرياء الزهو والغرور والعجرفة ... ليصدم هذا النبيل بسوط الضرائب وموظفي الجباية، وملاحقي الفقراء بقوتهم ( موظفي البلدية) فتارة يتوسل وأخرى يصادم ... وثالثة يقف عاجزًا أمام سطوة اللارحمة ...
لهنا لم ينتبه أحد ولم يتكلم أحد ولم يتطرق أحد لجيش من الشباب أصبح يجوب شوارع الوطن بحثًا عن وسيلة يعتاش منها في ظلّ انقسام ملعون أهمل الكل الغزاوي ... وجعله رديف لا يعبء به أو بآماله ومطلباته الدنيا ... والكل يعاتب الحصار تارة، والإنقسام تارة أخرى ... ويمنع أي عتاب أو همهمات لمن يطالب بحقه في الحياة، لا كهرباء، لا خدمات، لا عمل، لا مساعدات ... حتى تلك المساعدات التي تستلمها مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب تعرف طريقها للأقربون وللواسطات والمحسوبيات واللصوصية... أما غير المتحزبون فهم شواهد قبور حية تسير في الطرقات بحثًا وتوسلًا عن الحقيقة الغائبة تحت مطرقة العصا، وسنديان الكبت>
صوردت بسطة الغلابة ( روتس الغلابة) لينهض الغضب في صدر شاب جائع ويقرر أن يضع حد لحياته بالسم، فكيف يعود لأطفاله مكسورًا، وماذا سيقول لهم، لقد حشروني في جهنم لأنني غير حضاري، في بلد كلها حضارة، ووطن الحضارة فيه وصلت عنان السماء؟
ليرقد شهيد اللقمة الحي على سرير المشفى عاجزًا مكسورًا خائر الحيلة ويتساءل عن جريمته الكبرى التي يرد عليها بيان بلدية غزة الذي يعتبر بيان بدرجة الوقاحة في اتهام الشباب بأنه يمارس هذا الفعل دومًا، فالجريمة لا تبرر بجريمة أخرى، وكان أحرى بالبلدية ورئيسها أن يقدما الاستقالة تكفيرًا عن هذا الفعل الشائن بحق شاب يبحث عن لقمة عيشه شرعيًا دون أن ينحرف أو يمارس الرئيلة بل طرق باب الحق والفضيلة ليعيش أطفاله كأطفالهم.
هرول المهرولون ليوعدوا الشاب بوظيفة وتعويض هنا وأخر هناك ليقفزوا مجددًا عن جريمة أكبر ترتكب بحق أجيال كاملة، فالحالة ليس محمد أبو عاصي بل حالة آلاف محمد وآلاف الباحثين عن انتحار أو موت أو هروب من البطالة، والكبت، والقهر، والظلم المرتكب بحق هؤلاء الشباب على مدار الساعه، وصمت غير مبرر على ما يمارس ضد هذا الشعب المكسور.
إنّها يا سادة الوسادة ذات الريش النعامي حكاية شعب يريد منكم أن توقظ ضمائركم للحظة والبحث عن هموم المواطن الذي يذهب شاكيًا فيعود مذنبًا، يذهب مريضًا فيعود ميتًا أو بعاهة، يقضي أكثر من نصف يومه بلا كهرباء، تفترسه الأسعار المرتفعة، يتسكع بالشوارع بحثًا عن طرد غذائي من مؤسسة هنا وفاعل خير هناك... القضية أكبر من حصار وأكبر من انقسام أنها قضية استهتار وضرب هموم شعبنا بعرض الحائط، وترك شبابنا لارتكاب الجناية ومن ثم اعتقاله وتغريمه بآلاف الشواقل ... قضية إنسان لم يعد له وجود في وطنه إلا بالواسطة والمحسوبية في الوقت الذي يصرف به ملايين الشواقل على العروض العسكرية وحفلات الزواج الجماعي ومهرجانات الفوتوغرافيا، والبزخ المفتعل ... واستحلاب المواطن من كل فج وميل ... فضرع شبعنا قد جف ولم يعد فيه شيء يقدمه لكم ... فلا توظفوا محمد أبو عاضي لتدفنوا الحقيقة وتخرسوا الهموم في صدر المكبوتين، بل هي قضية تحتاج وقفة من الحكومتين حكومة الوحدة والرئيس، وحكومة الظل المسيطرة على غزة، وكذلك من الأخوة في حركة حماس والأخوة في فصائل الفعل الوطني التي لم يعد لها وجود إلا بمسيرات الفتوفيسبوك... لن يرحمكم التاريخ ولن ترحمكم الجغرافيا ... ولن يغفر لكم شبابنا ما تفعلوه بمستقبلهم.


