بينما تنظر الولايات المتحدة لإمكانية الانتهاء من الملف النووي الإيراني باعتباره تطورا إيجابيا سيعود على الشرق الأوسط باستقرار أكبر، يبدو الأمر مختلفا لدى حلفائها العرب.
وقد جرى التعبير عن هذا الرأي منذ اتفاق الإطار الأول بعد انتخاب الرئيس روحاني في إيران. إذ اتجه بعض الكتاب والرسميين العرب لاتهام واشنطن بالخيانة وطعن الحلفاء من الخلف بالذهاب للمفاوضات مع إيران دون علم عربي باستثناء سلطنة عُمان.
لسنا في صدد الخوض في أسباب التخوف العربي من أي اتفاق يؤدي إلى تطبيع العلاقات الإيرانية الأميركية باعتباره -كما يحلو لهم- النتيجة المؤكدة لأي اتفاق حول النووي الإيراني، إلا أنه بإمكاننا رصد الأخطاء الواضحة في القراءة الرسمية وغير الرسمية للعرب حول مفاوضات النووي الإيراني ونتائجه المحتملة.
(1)
من أهم ما طرح ويطرح حول السياسة الأميركية تجاه إيران، أن واشنطن تحاول الانتهاء من الملف النووي لتترك الشرق الأوسط وحلفاءها لإيران. بعبارة أكثر وضوحا إن الولايات المتحدة تبيع حلفاءها والشرق الأوسط لإيران.
وهذا الطرح مبني على ثلاثة افتراضات، أولا: أن الاتفاق الإيراني الغربي هو تفاهم إيراني أميركي يجري تسويقه عبر المجتمع الدولي في إطار 1+5. ثانيا أن الاتفاق أكثر شمولية من الملف النووي الإيراني، ويشمل فيما يشمله قضايا الشرق الأوسط ودور إيران فيها. ثالثا أن الولايات المتحدة تشد الرحال للخروج كليا من الشرق الأوسط وهي تبحث -نتيجة لذلك- عن دولة كإيران لإدارة الملفات الإقليمية.
والواضح أن هناك مشكلة محورية في ما تم افتراضه هي تبسيط الأمور بسذاجة كبيرة. فأولا حتى لو كان للولايات المتحدة اليد العليا في المفاوضات، لا يعني ذلك بالضرورة تبعية باقي الأطراف في 1+5 لواشنطن.
ومن خلال قراءة السلوك الإستراتيجي لواشنطن في مجموعة 1+5 وخارجها، يتبدى للمتابع إصرارها على التحرك بشكل جماعي في الملف النووي. وكانت الخلافات الأميركية الأوروبية -وخاصة الفرنسية - مثلا قد أجلت الاتفاق أكثر من مرة. وعليه يصعب افتراض أن المفاوضات الجارية هي مفاوضات أميركية إيرانية بغطاء دولي لا تؤثر فيها سائر دول 1+5.
ثانيا: أن الولايات المتحدة، وبشكل أوضح منها إيران، تصران على النأي بالمفاوضات النووية عن الملفات الإقليمية لما قد تضيفه من تعقيد على المفاوضات. كما أن الرؤية الإيرانية لدور واشنطن الإقليمي مبنية على تأثير هذه الأخيرة سلبا على القضايا الإقليمية، إذ تصر طهران على أن أحد دوافع التطرف كان ومازال الوجود الأجنبي في المنطقة.
ثالثا: حتى لو تراجع الدور الأميركي في الشرق الأوسط، وهي إستراتيجية مطروحة تحت عنوان تغيير المسار "بيفوت" (Pivot) باتجاه الشرق، فإن الاعتماد الأميركي على إيران يظل ضعيفا لعداء هذه الأخيرة لإسرائيل ودعمها لحركات المقاومة من جهة ولخيارات إيران المستقلة التي لا تبحث عن العمل تحت المظلة الشرق أوسطية للولايات المتحدة من جهة أخرى. إذن من الصعب قبول أطروحة أن "الولايات المتحدة تبيع الشرق الأوسط لإيران". فالخيارات الإستراتيجية الأميركية أو الإيرانية لا تؤيد هذه المقولة.
(2)
ثاني خطأ يقع فيه الكثير من المحللين -وحتى المسؤولين- هو مدى قدرة بعض الدول والشخصيات في التأثير على الخيارات الإستراتيجية الأميركية تجاه إيران وغيرها من القضايا.
فقد دأبت بعض الدول العربية على تغيير صورة إيران في واشنطن تارة، ووجهت تهديدات مضمرة لها تارة أخرى. حاولت السعودية وغيرها من خلال الحرب على اليمن والجبهة الإعلامية المصاحبة لها التأكيد على أن إيران لاعب ينشر الفوضى وعدم الاستقرار. كما حاولت من خلال التقارب مع أطراف دولية وإقليمية أن تبدي البدائل المطروحة للسعودية وحليفاتها عند أي تقارب أميركي إيراني.
ولم تجد هذه التهديدات صدى يُذكر في واشنطن لسبب بسيط: عندما تتوصل الولايات المتحدة إلى خيار إستراتيجي كخيار التفاوض بدل الحرب مع إيران، لا يمكن بسهولة تغيير المسار بسبب الطريقة المختلفة لاتخاذ القرارات في دولة تحكمها المؤسسات كالولايات المتحدة.
كما أن هناك صعوبة في تغيير المنظومة الفكرية للإستراتيجي، إذ تطلب الأمر عقودا طويلة ليصل الإستراتيجي الأميركي إلى نتيجة فحواها عدم جدوى التمسك بسياسة القبضة الحديدية وضرورة التعاطي من منظور آخر مع طهران.
ثم إن التهديدات المضمرة ستكون ذات جدوى عندما ترتكز على رؤية إستراتيجية يمكن عدها بديلا بالإمكان الاتكاء عليه. بينما نظرة الدول العربية المناهضة لإيران للتعاطي الأميركي مع الملف النووي الإيراني، مبنية على السلبية ولا تحمل رؤية بديلة يمكن تسويقها في واشنطن وغيرها من العواصم الغربية.
محاولة ثني الولايات المتحدة عن الاتفاق مع إيران في إطار 1+5 تنم عن رؤية تقول بضرورة بقاء الولايات المتحدة مفتاحا لحل مشاكل المنطقة وأزماتها. هذا التعويل على الدور الأميركي ينبع من عدم إدراك أو التهرب من إدراك التحول الإستراتيجي الحاصل في واشنطن أولا، والتخوف من القيام بالمسؤوليات الإقليمية بإجماع وتعاون إقليمي ثانيا.
لذلك يبدو أن من يعول على استمرار الدور الشرق أوسطي لواشنطن كسابق عهده لا يريد القبول بالواقع. فالولايات المتحدة غيرت مسارها بغرض مواجهة تحدي الصين. ولا يمثل الشرق الأوسط اليوم ما كان يمثله قبل عقد من الزمن في العيون الأميركية. لذلك يبدو واضحا أن محاولات ثني الولايات المتحدة ستبوء بالفشل لأن واشنطن توصلت لقرار منذ عدة أعوام ومازالت تسير عليه.
(3)
من الأمور التي تطرح كأداة لتخويف الدول الغربية من إيران، وقد تكون نابعة من خوف حقيقي في الدول العربية، أن أي اتفاق مع إيران يخلصها من العقوبات ويمنحها مداخيل كبيرة سيؤدي لزيادة دعمها لحلفائها في الشرق الأوسط. وهذا الكلام مبني على أن إيران لم تقدم القدر الكافي من المساعدات لحلفائها من جهة وأن الدول الغربية ستتخوف من زيادة الدعم الإيراني لحلفائها من جهة أخرى.
والفرضيتان مبنيتان على إشكاليتين واضحتين. فأولا قدمت إيران القدر الذي رأته كافيا لحلفائها حتى الآن، وستجد الوسيلة لدعم حلفائها بالقدر الكافي حتى لو استمرت العقوبات المفروضة عليها. وقد أثبتت ذلك في سوريا والعراق بشكل لا لبس فيه.
ثانيا يجد المتتبع للسلوك الإستراتيجي للولايات المتحدة ومجموع الدول الغربية أن ما يشغلها اليوم في الشرق الأوسط هو تجفيف منابع التطرف و"الإرهاب" بغية إيقاف "الخطر الإرهابي" المتوجه لأوروبا والولايات المتحدة.
كان هذا التوجه واضحا في تردد الدول الغربية -وعلى رأسها الولايات المتحدة- في التحرك ضد سوريا قياسا بتحركها السريع في نسج التحالف الستيني لضرب تنظيم الدولة (داعش) جويا. بينما تعلم الدول الغربية أن إيران وحلفاءها الشرق أوسطيين هم اليوم أكثر الأطراف تأثيرا في محاربة التطرف المتمثل بداعش وأخواته.
والمفارقة أن الغرب يعلم أيضا أن محاربة إيران وحلفائها للتنظيمات المتطرفة لا تتم بغرض إثارة إعجاب الدول الغربية بل تهدف لتحقيق مصالحها. إذن فمحاولات إثارة مخاوف الدول الغربية من دعم إيران لحلفائها لن تحقق للدول العربية أهدافها في هذا الصدد.
(4)
هناك تطور في سلوك الولايات المتحدة إزاء دول الشرق الأوسط، ومنها إيران. ولم يأت هذا التغيير من فراغ، فبغض النظر عن البعد الدولي لتغيير السياسة الأميركية، بالنسبة للشرق الأوسط آتت الخيارات الإستراتيجية والسلوك الإيراني في مواجهة الأزمات الإقليمية أكلها في التأثير على الدول الغربية ومنها واشنطن.
فقد اتضح أن الدول الغربية ترى في الرؤية الإستراتيجية الإيرانية -رغم الاختلاف معها في جوانب واضحة ومنها دعم إيران للمقاومة ضد إسرائيل- أنها تحمل من المسؤولية ما يصب في صالح استقرار الشرق الأوسط والحد من التطرف.
كما أن لهذه النظرة دعائم تاريخية في العقود الأخيرة، إذ لم يؤسس من دعمتهم إيران في فترة الجهاد الأفغاني القاعدة وطالبان، ولم يؤسس من دعمتهم إيران في العراق تنظيم "الدولة الإسلامية"، ولم يبن من دعمتهم إيران تنظيم "داعش" و"جبهة النصرة" و"أحرار الشام" وغيرها من التنظيمات المتطرفة في سوريا.
الإستراتيجي الأميركي والغربي لم يكن يوما بعيدا عن واقع خيارات إيران الإستراتيجية وسلوكها في الشرق الأوسط. ويرى أن من دعمتهم إيران في أفغانستان والعراق، ومازالت على علاقة وثيقة بأكثرهم، دخلوا عملية بناء الدولة بدل تأسيس تنظيمات متطرفة تحاول تقويضها والعمل كبديل لها.
بشكل عام، كان التغيير الشرق أوسطي في سياسة الغرب، والبادي في مفاوضات النووي الإيراني، نتاج عقود من التفاعلات في علاقة إيران وهذه الدول. إلا أن الدول العربية أصبحت، بعد بلورته إثر انتخاب الرئيس حسن روحاني في إيران، من أعتى عتاة معارضيه. بينما يبني هذا التغيير، في صورته الشاملة، لمستقبل أفضل للمنطقة الشرق أوسطية يكون لدوله الدور الرئيسي في إدارة ملفاته وبناء نظامه الأمني والسياسي.
ثقافة الرفض والتهرب من التغيير مازالت تسود المنطقة، إلا أن الدول العربية تضيع بمعارضتها للتغيير مصالح القبول به والتعاطي معه، ولها رصيد تاريخي كبير في هذا الصدد. في الوضع الحالي تبدو إيران أكثر إدراكا لواقعه وتعاطيا معه. هكذا تبدي ابتسامات وزير خارجيتها التي لم تنقطع يوما منذ توليه.
ـ الجزيرة نت ـ باحث وأکاديمي إيراني متخصص بالشؤون الإستراتيجية