خبر : عن ظاهرة الإرهاب في تونس ... محمد ياغي

الجمعة 27 مارس 2015 08:41 ص / بتوقيت القدس +2GMT



العملية الإرهابية التي حدثت في تونس يوم 18 آذار الماضي، والتي استهدفت المتحف الوطني في مبنى البرلمان لم تكن الأولى منذ نجاح الثورة التونسية. صحيح بأنها كانت الأكبر من حيث عدد الضحايا، والأوسع من ناحية التغطية الإعلامية، لأسباب أهمها وقوعها في قلب العاصمة، وفي أحد رموز السيادة التونسية الأهم - البرلمان، وفي عدد الضحايا (25 قتيلاً منهم اثنين من الإرهابيين)، وفي استهدافها لقطاع السياحة، لكنها أيضاً لم تكن الأولى.
بدأت العمليات الإرهابية في تونس بعد أربعة أشهر على نجاح الثورة، تحديداً في أيار 2011، عندما اشتبك الجيش التونسي مع مجموعة إرهابية في منطقة الروحية- ولاية سيليانة، أعقب ذلك اشتباك مسلح آخر بين الجيش وهذه الجماعات في منطقة بئر بن علي خليفة - صفاقس، في شهر كانون الثاني 2012، ثم جاءت بعدها حادثة اغتيال الزعيمين الوطنيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في شباط وتموز 2013، وبينهما وبعدهما وقعت أحداث جبل الشعانبي - القصرين، التي استهدفت جنود الجيش التونسي بالعبوات المتفجرة. بالمجمل قتل أكثر من 31 جندياً تونسياً وجرح قرابة 120 آخر في عمليات إرهابية أو أثناء الاشتباك معها منذ نجاح الثورة.
صحيح بأن العمليات الإرهابية زادت منذ سقوط نظام بن علي، لكن يخطئ كثيراً من يحمل الثورة المسئولية عن هذه العمليات. دعونا أولاً ألا ننسى أن العمليات الإرهابية بدأت في عهد بن علي. العملية الأكبر التي استهدفت قطاع السياحة في تونس قبل حادثة باردو مثلاً وقعت في نيسان 2002 عندما تم تفجير شاحنة لنقل الغاز في كنيس الغريبة، في ولاية جربة-مدنيين، والتي راح ضحيتها 14 مواطناً تونسياً وألمانياً وفرنسياً. 
تحاول أيضاً بعض النخب التونسية الربط بين صعود النهضة إلى الحكم وحتى أوائل العام 2014، وبين ازدياد هذه العمليات، لكن لا يخفى على أحد أن هذا الاتهام هو جزء من الصراع السياسي في تونس. 
نخب النظام القديم تريد الاستمرار في الترويج لأكذوبة عاشت عليها واستمدت منها شرعية دولية عقدين كاملين من الزمان، بأن البديل لها هو الإسلام المتطرف، وأن التونسيين اليوم يحصدون ثمن تخليهم عن نظام بن علي. 
النخب الليبرالية اليسارية هالها وأخافها أيضا الصعود الكبير للنهضة بعد الثورة، ومصدر الخوف هو العلاقة الملتبسة بين النهضة والسلفيين، والنهضة حاولت كسب السلفيين إلى جانبها لتحقيق مكاسب انتخابية بعد الثورة، لكن هذا لم يكن يعني قطعاً بأنها قد انتقلت من موقعها كأحد مراكز الإسلام المعتدل إلى التطرف. 
الحقيقة أن تصفية النهضة خلال فترة بن علي بالقوة العارية كان من الأسباب الرئيسة لزيادة مساحة التطرف في تونس. 
من جهة لم يعد هنالك منافس إسلامي معتدل يستقطب الشباب الإسلامي إلى صفوفه، وأصبحوا بذلك أسرى لأفكار بعض مشايخ السلفية الجهادية التي تستقي أفكارها من الوهابية. من جهة أخرى استمرار الهجوم على التيار الإسلامي المعتدل أعطى الانطباع بأنه حتى لو وصل الإسلاميون إلى الحكم بطريقة ديمقراطية فإن أحداً لن يمكنهم من الحكم، وبالتالي لا ضرورة لممارسة الاعتدال ما دامت النتيجة واحدة، وهي ظاهرة بدأنا نشاهدها في مصر أكثر من تونس لأن النهضة في تونس كانت أكثر ذكاء من إخوان مصر، وفضلت تقديم تنازلات جوهرية كانت ضرورية للحفاظ على المسار الديمقراطي بدلاً من الذهاب إلى مسار قد يؤدي إلى صدام مباشر بينها وبين خصومها.
لكن جذور المشكلة - زيادة التطرف في تونس بعد الثورة - في تقديرنا تتجاوز الصراع مع النهضة بكثير. بعيداً عن نظرية المؤامرة التي يحاول بعض التونسيين تسويقها، بأن عناصر النظام القديم في مؤسسات الدولة تقف خلف هذه العمليات حتى تتمكن من العودة للحكم بالحديد والنار كما كان عليه الوضع سابقاً، وهي نظرية لا يوجد ما يدعمها خصوصاً إذا علمنا بأن العدد الأكبر من الجماعات الجهادية المتواجدة في سورية هم من تونس (يدور الحديث عن ثلاثة آلاف جهادي). هنالك ثلاثة عوامل تقف خلف ظاهرة التطرف في تونس:
الأولى، أن القضايا التي أشعلت ثورة ديسمبر 2010 لا تزال قائمة، ولم يطرأ عليها تغير حقيقي باستثناء زيادة مساحة الحرية والتداول السلمي على السلطة. صحيح بأن هاتين المسألتين هما إنجاز كبير ومهم لا يجب التنازل عنه تحت أي ظرف، لكن وبنفس القدر من الصحة، قضايا الفقر والبطالة بين الشباب وتهميش المناطق الداخلية في تونس، وعدم وجود بنى تحتية في مدن أحزمة الفقر حول تونس وصفاقس، التي يسكنها مئات آلاف التونسيين كانت ولا تزال هي السبب الرئيس خلف حالة عدم الاستقرار.
إنها الأرضية الخصبة لنمو الجماعات المتطرفة، فعندما تعجز الدولة عن بناء مواطنة قائمة على العدل بتوفير المساواة في فرص العمل والتنمية، يصبح الشباب ضحايا لأفكار تبشرهم بالعدالة حتى لو كانت هذه «العدالة» الموعودة قائمة على سفك الدماء، وحتى لو كانت مؤجلة لما بعد الموت. بعد أربع سنوات على الثورة، لم يتغير الكثير في حياة فقراء تونس، بل إن أوضاعهم المعيشية قد ازدادت سوءاً، دون أن يشعر هؤلاء بأن حياتهم اليومية قد تغيرت للأفضل بعد الثورة، ستستمر الحركات المتطرفة في استقطاب العديد من الشباب التونسي حتى لو تمكن الأمن من تفكيك بعض خلاياها أو القضاء عليها مؤقتاً. 
السبب الثاني له علاقة بالمغالاة في المطالبة بفصل الدين عن الدولة. شاء البعض أم أبى، فإن الهوية التونسية بحكم الواقع التاريخي مرتبطة بالإسلام. محاولات تكسير هذه الهوية بخلق واقع قبل أوانه، بأن تونس يجب أن تحكم كما هو الحال في فرنسا، يعطي الانطباع بأن الهوية الإسلامية مستهدفة، وبدلاً من دفع الشباب الإسلامي للتفكير العقلاني بأن «العصرنة» و»الإسلام» لا يتعارضان من خلال تطوير وتحديث مبادئ الاجتهاد في الإسلام، والدفع بأن حقوق الإنسان العالمية لا تتعارض مع جوهر الإسلام.
كيف يمكن لمن يتبنى هذه الحقوق أن ينكر حق طالبة منقبة في دخول جامعة مثلاً، أو ليس اختيار اللباس الشخصي هو أحد الحقوق البسيطة التي لا يجب أن يكون هنالك نقاش أصلاً بشأنها؟ المسألة هنا هو أن التطور الطبيعي للمجتمع ككل يحتاج إلى وقت، وعمل، ومناخ قائم على احترام عقائد البشر وثقافتهم لا الاصطدام المباشر معها.
السبب الثالث لا علاقة للتونسيين به، سقوط الدولة الليبية على حدود تونس الجنوبية - الشرقية خلق أرضية للتواصل بين الجماعات الجهادية في البلدين بطريقة لم تكن متوفرة في السابق. المسألة أن تونس الدولة أصبحت أمام تحدٍ جديد لا علاقة لم يحكم فيها به. هي مسألة لا يوجد حل سهل لها لأنها تتعلق بقدرة الليبيين على استعادة وحدتهم كشعب، وبناء جيش قادر على تأمين حدود دولته المترامية الأطراف. 
إن كان يوجد شيء بإمكان الدولة التونسية القيام به هو في أن تلعب دور الوسيط بين المجموعات المتصارعة في ليبيا لتوحيدهم وحل الخلافات بينهم حتى يتمكنوا من بناء دولتهم. مؤازرة فئة على حساب فئة أخرى هو الطريق الأسوأ لأمن تونس لأن استمرار الصراع في ليبيا يعني غياب الأمن على الحدود معها واستمرار التواصل بين المجموعات المتطرفة بين البلدين. 
تونس أول الربيع العربي، ونجاح التجربة الديمقراطية فيها سيلهم الشعوب العربية الأخرى على استعادة ثوراتهم التي خسروها بفعل الحروب الأهلية والتدخل الخارجي والانقلابات العسكرية، تماماً مثلما ألهمتهم عندما صنعت ثورتها المجيدة.