غزة أطلس للدراسات
نواصل في الحلقة الثانية نشر أهم ما جاء في التقرير الاستراتيجي لإسرائيل 2014-2015، الصادر عن مركز دراسات الأمن القومي – تل أبيب، وكنا قد تناولنا في الحلقة السابقة مفاوضات التسعة أشهر بين السلطة ودولة الاحتلال، وكذلك اتفاق المصالحة وتشكل حكومة التوافق، وننوه الى ان كل ما يرد هنا لا يمثل رأينا في مركز أطلس، وإنما وجهة نظر مركز دراسات الأمن القومي.
سمعت مزاعم في إسرائيل ان المواجهة العسكرية التي اندلعت في يوليو 2014 بين حماس وبقية الفصائل في قطاع غزة وبين إسرائيل هي ناتجة عن إعداد مسبق من قبل حماس التي بادرت بالمواجهة بهدف تحسين وضعها؛ مع ذلك فإن تطور الأزمة يدل على ان المعقول أكثر ان تدهوراً لم يسيطر عليه الطرفان فتحول إلى مواجهة شاملة، وفي مرحلة معينة لم يكونا معنييْن بإنهائها.
بداية التصعيد كانت باختطاف المستوطنين الإسرائيليين من قبل خلية حمساوية في الخليل كوسيلة لتبادل الأسرى، ورغم ان حماس تتبنى مبدئياً اختطاف الإسرائيليين كورقة للتفاوض إلا ان القيادات السياسية والعسكرية لحماس لم يكونوا على علم بهذه المبادرة، اختطف رجال المجموعة من "غوش عتصيون" ثلاثة تلاميذ من المستوطنة، وعندما تشوشت العملية قتلوهم، ردت إسرائيل بالقبضة الحديدية، ومن بين أسباب كثيرة بسبب صغر سن المخطوفين وجنسيتهم أجرت قوات الأمن تفتيشاً مكثفاً تعقبت فيه المخطوفين، وفي المقابل اتخذ قرار باستغلال الحدث بهدف المس بشكل واسع ببنى حماس في الضفة الغربية، وخصوصاً البنى السياسية والاجتماعية للتنظيم.
وبدأ الانجرار إلى القتال في غزة عندما قامت مجموعات مسلحة أخرى في غزة وليس حماس نفسها باستغلال التوتر السائد على الساحة الإسرائيلية الفلسطينية بعد فشل المفاوضات السياسية والمواجهة التي اندلعت في الضفة الغربية كمبرر لإطلاق الصواريخ من غزة تجاه أهداف إسرائيلية؛ تحركت إسرائيل وفق سياستها المقررة، والتي مبدؤها الرد على إطلاق الصواريخ من غزة بمهاجمة أهداف داخل القطاع بما يوائم الفهم الإسرائيلي ان حماس كحاكم لغزة هي العنوان المسؤول عن كل ما يجري فيها، ومن بين أهداف الرد العسكري كانت أهداف تابعة لحماس، وبعد حوالي أسبوع من بدء إطلاق الصواريخ من غزة وعقب هجوم إسرائيلي لنفق حمساوي في القطاع قضى فيه عدد من أعضاء القوة الخاصة التابعة لحماس؛ قررت قيادة حماس هي أيضاً الرد بإطلاق الصواريخ بشكل أكثر كثافة واستغلال التدهور الحاصل لكي تغير الوضع في قطاع غزة من أساسه، ولترمم سلطتها في القطاع العالقة طبعاً في ضائقة حادة.
لا يمكن استبعاد احتمال ان إطلاق الصواريخ من قبل المجموعات الأخرى إلى جانب الرد الإسرائيلي على إطلاق النار جعل من الصعب على حماس خصوصاً ألا ترد، أعمال الفصائل الأخرى لم تكن موجهة ضد إسرائيل وحدها؛ بل كانت تهدف لتوصيل رسالة للجماهير الفلسطينية ان حماس ليس حقاً تنظيماً مقاوماً للاحتلال الإسرائيلي، وإنما هي مثل فتح والسلطة الفلسطينية يخدم في الواقع المصالح الإسرائيلية، معنى هذه الرسالة ان ذات الفصائل هي في الواقع المقاومة الحقيقية، لذلك فهي جديرة بالتأييد الجماهيري.
لم يكن بإمكان حماس ان تدفع هذه التهمة عن نفسها بينما لا تزال تتصرف بضبط النفس تجاه الكفاح ضد إسرائيل، مؤيدي الأسلوب الذي أدى إلى وقوع التدهور بمبادرة حماس زعموا ان النيران التي أطلقتها الفصائل الأخرى اعتبرت تلميحا من قبل حماس التي كان بإمكانها ان تمنع مثل هذه الأعمال؛ بل ربما ان عناصر من حماس، وخصوصاً من ذراعها العسكري من الذين كانوا محبطين لأن السلطة الفلسطينية لم ترسل إليهم رواتبهم بسبب العراقيل التي تضعها إسرائيل في وجه تطبيق اتفاق المصالحة، وكذلك من الخطوات التي اتخذتها مصر بهدف تقويض خطوات حماس؛ ظنوا ان المواجهة مع إسرائيل ستوفر لهم فرصة الخروج من الأزمة، سواء هذا أو ذاك فقد تطور التصعيد لمواجهة واسعة اضطرت إسرائيل فيها إلى الرد على إطلاق الصواريخ الحمساوية بهجمات واسعة النطاق وشديدة القوة في غزة.
من جانب حماس، والحال كذلك، فإن بدء المواجهة تميز باختلاف الظروف الخلفية التي كانت في المواجهات السابقة مع إسرائيل، أولاً: دخلت حماس المواجهة في وضع ضعف سياسي ومالي لا سابق لهما، ثانياً: كانت حماس عالقة في وضع من ليس لديه ما يخسره بسبب وضعها المتردي، وما أوضحته إسرائيل أيضاً منذ بداية المعركة بأنها لا تنوي تقويض سلطة حماس في القطاع، ثالثا: منظومة اتخاذ القرارات التابعة للتنظيم كانت هي أيضاً مزعزعة ومعزولة في مركباتها بشكل لا سابق له، الفصل الذي نبع جزئياً من الفصل الجغرافي بين مبعوثي قيادة حماس عبر أيضاً عن مصالح مختلفة للذراع العسكرية، وكذلك بين الصف القيادي السياسي القاطن في قطاع غزة، وذلك القابع خارجه.
الذراع العسكرية لحماس اعتمدت سياسة أكثر تشدداً بعد موت قائدها السابق أحمد الجعبري في بداية عملية "عامود السحاب" (نوفمبر 2013) وفي ظل قيادة محمد الضيف، التشدد المتنامي ولكن المصحوب بمشاعر الإحباط التي سببتها الضائقة الاقتصادية في قطاع غزة، والتقدير بأن إسرائيل لا تنفذ التفاهمات التي تحققت مع انتهاء معركة "عامود السحاب" بشأن التسهيلات على تنقل الافراد والبضائع من القطاع وإليه. بالنسبة للذراع السياسي لحماس؛ فرجالها في القطاع أقرب إلى السكان المحليين، ولذلك فقد أبدوا مرونة نسبية وتوجهوا للموافقة على وقف إطلاق النار مبكراً، وفي المقابل رجال الذراع السياسي خارج قطاع غزة عملوا إلى حد كبير بما يوائم سياسات رعاياهم الإقليميين، خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس، والذي تمتع برعاية النظام القطري شجع على الأغلب موقف الذراع العسكري وعرض مطالب طامحة كشرط لوقف إطلاق النار، موسى أبو مرزوق نائب مشعل والمقيم في القاهرة قدم في المقابل مواقف معتدلة أيدت توصيات وقف إطلاق النار المصرية.
أحد المعالم البارزة لجولة القتال بين إسرائيل وحماس هو استمراره لمدة طويلة بالمقارنة مع الجولات السابقة، استمرت المواجهة خمسين يوماً من الـ 8 من يوليو إلى 26 من أغسطس (عملية "عامود السحاب" التي سبقتها استمرت 8 أيام، وعملية "الرصاص المصبوب" في نهاية العام 2008 وبداية 2009 استمرت 23 يوماً)، منذ المراحل الأولى للقتال كانت إسرائيل مستعدة لوقف إطلاق النار، حيث "يقابل الهدوء بالهدوء" غير ان حماس رفضت وقف إطلاق الصواريخ ما لم تحدد مبادئ فك الحصار عن غزة.
يمكن ربط تواصل القتال الطويل الأمد هذه المرة بتحسن قدرة حماس على التحمل المعتمد إلى حد ما على مخزون الصواريخ الكبير التي امتلكها التنظيم، وعلى كونه محمي جيداً في الأنفاق، من تجرته في طريقة انتهاء المعارك في السابق فهم تنظيم حماس ان عليه ان ينتزع الانجازات من إسرائيل كشرط لوقف إطلاق النار، وإلا فإن الفرصة لرفع الحصار عن غزة ستكون ضعيفة.
في أوساط الجمهور الإسرائيلي انتشرت أيضاً مزاعم بأن الهجمات الجوية والاجتياح البري المحدود الذي قام به الجيش الإسرائيلي لم يشكلا ضغطاً كان يمكنه ان يؤثر على حماس للتراجع عن إطلاق النار ووقف القتال، ولكن قيل انه في مرحلة متقدمة من القتال وبعد الهجوم وإسقاط الأبراج في غزة؛ تشكل ضغط على قيادة حماس من قبل النخبة في المدينة للتراجع عن القتال، ولكن لا يوجد دلائل كافية تدعم هذه المزاعم، يبدو ان الصعوبة في التوصل إلى اتفاق مبكر لوقف إطلاق النار نبع أساساً من الجمع بين ثلاثة عناصر: الأزمة التي كانت حماس تعانيها عشية الاقتتال، واعتلال منظومة اتخاذ القرارات في حماس، والديناميكا التي تمثلت بانعدام التنسيق بين اللاعبين الخارجيين الذين كان من شأنهم ان يساعدوا في تعجيل وقف إطلاق النار.
بسبب وضعها المتأزم؛ كان من الصعب على حماس ان توافق على وقف إطلاق النار دون تحقيق انجاز في المجال الاقتصادي – عموماً مثال انجاز يظهر في التقدم نحو رفع الحصار عن القطاع، وخصوصاً دون حل للأزمة المالية للتنظيم نفسه – بترتيب لحل مشكلة الرواتب للموظفين العمومين في القطاع، بانعدام وجود هذه الإنجازات؛ لم تكن حماس قادرة على ان تشرح للجمهور الغزي أسباب الانجرار إلى المواجهة والأثمان الباهظة التي دفعها الجمهور في الأنفس والممتلكات، وكان الأهم بالنسبة للتنظيم الانجازات العملية مثل الحركة الحرة للبضائع والأفراد من غزة وإليها، وكذلك انجازات رمزية كان يمكن تحقيقها كـ "صورة للانتصار" مثل موافقة إسرائيل على بناء ميناء بحري ومطار في غزة، حتى وإن لم يسهم ذلك فوراً في حل الأزمة، إسرائيل من جانبها كانت مستعدة لفتح القطاع للتنقل الأكثر حرية الذي يحسن الوضع الانساني في المنطقة، ولكنها لم تكن مستعدة لتوافق لما يمكن ان يفسر انه جائزة لحماس على سياستها العدوانية، ضعف منظومة اتخاذ القرارات في حماس مكنت الجناح العسكري من فرض الفيتو على أي قرار، وأجلت حتى موافقة حماس على وقف إطلاق النار.
وغير ذلك فإن موقف نظام السيسي تجاه المواجهة خصوصاً، وتجاه حماس عموماً، فحماس اعتبرت مصر (الوسيط التقليدي لوقف النار بين إسرائيل والتنظيم)، اعتبرتها عنصراً معادياً ومتعاوناً استراتيجياً مع إسرائيل، إسرائيل من ناحيتها عارضت محاولات التوسط من لدن تركيا وقطر، واللتان قامتا بلعب دور أكثر أريحية لحماس، والولايات المتحدة حاولت هي الأخرى إنجاز وقف إطلاق نار مبكر، ولكنها فعلت ذلك بطريقة فاشلة استثنت من العملية ثلاثة لاعبين أساسيين (إسرائيل ومصر وقيادة السلطة الفلسطينية)، وربما أدى هذا الفشل إلى كون المعركة العسكرية لم تنتهي قبل الموعد الذي انتهت عنده، ولكن تقدير وزير الخارجية كيري ان قطر وتركيا هما ذواتا تأثير على حماس، ولذلك يجب تدخلهما في جهود الوساطة؛ لا أساس لها من الصحة، وإلى ذلك فاستبعاد مصر والسلطة الفلسطينية والتي عبر عنها بعدم عوتهما للقاء الذي قام به كيري في باريس مع ممثلي قطر وتركيا في إطار الوساطة التي تزعمها هو خربت فرص نجاح العملية، أضف إلى هذا؛ ان أسلوب كيري وفر لقطر وتركيا شعوراً بأنهما يمكن ان يفرضا وقف النار وفق شروط حماس، عندما عرض كيري مقترحاتهما لوقف إطلاق النار على انها مبادرته فقد جهود وساطته البالية.
في نهاية الأمر، وبعد 50 يوماً من القتال؛ نجحت إسرائيل ومصر بفرض شروطهما لوقف إطلاق النار على حماس، اضطرت قيادة حماس إلى القبول بالصيغة المصرية القاضية بألا تكون حماس هي الممثل الحصري للجانب الفلسطيني في الحوار القادم حول الترتيبات الجديدة في قطاع غزة، وأن يضم الوفد الفلسطيني كل التنظيمات العاملة، وأن تترأسه منظمة التحرير/ السلطة الفلسطينية؛ هكذا حولت مصر الرئيس عباس إلى لاعب مركزي فيما يتعلق بالأزمة في غزة ووقف إطلاق النار، ثانياً: الخطة ذات المرحلتين، والتي اقترحتها مصر، عكست رغبتها في ان تسحب من حماس إمكانية تحقيق المكاسب؛ وقف إطلاق النار غير المرتبط بأي أمر غير المساعدة الانسانية لغزة وتوسيع مجال الصيد البحري في بحر غزة (من ثلاثة إلى ستة أميال) والمفاوضات التي تجري خلال شهر حول بقية مطالب إسرائيل وحماس الاخرى بهدف التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار.