هل نجرؤ قبل ثلاثة أيام فقط من إجراء الانتخابات الإسرائيلية العامة، وهي انتخابات ديمقراطية حقاً وتمثيلية حقاً وهذا ما يجب أن نقر به، على القول رغم ما يعتري هذا النوع من الانتخابات من ضبابية وشك بالتكهن بنتائجها، إن هناك رجلاً واحداً وحزباً واحداً هو بنيامين نتنياهو وحزبه منقلب عليهما، وإن ثمة فائزين في هذه المعمعة لعلهما تحالف اليسار، وتحالف القائمة العربية المشتركة .
ثمة وقت للصعود وثمة وقت للسقوط، ثمة وقت للربح وثمة وقت للخسارة. وليست هذه الانتخابات التي تشبه معركة يشترك فيها الجميع الأميركيون والأوربيون، وحتى نحن الفلسطينيين من وراء الستارة، سوى الطبعة الجديدة، ولكن المتكررة منذ العام 1992 في محاولة البرهان، على حقيقة ان موازين القوى الداخلية في هذا البلد الصغير والتابع، إنما تقررها دولة المركز والراعي، هناك في نهاية السبعينات حيث التحول الى اليمين، رونالد ريغان ومارغريت تاتشر.
كان الانقلاب التاريخي على حزب العمل في العام 1977، ولكن حينما لاحت الفرصة، أمام جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر مع انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة لإعادة تركيب النظام الأمني الإقليمي في المنطقة، بعد حرب الخليج الأولى، وعقد مؤتمر مدريد للسلام، فقد كان على إسحاق شامير ان يرحل ويأتي الانقلاب العام 1992 بحزب العمل وإسحاق رابين وبقية القصة معروفة. ما كان لعودة الليكود بشخص بنيامين نتنياهو العام 1996 الاستمرار في الحكم، لأكثر من سنة ونصف السنة بعد التوصل الى اتفاقية أوسلو، ولكن مع عودة اليمين مجدداً، بقوة اكبر في عهد بوش الابن، وبروز دور المحافظين الجدد، في أميركا وتولي طوني بلير الحكم في بريطانيا فالى اليمين عد في إسرائيل على نحو كاسح، ممثلا بأكثر رموز هذا اليمين عنفا ووحشية، بشخص أرئيل شارون.
هنا عند هذه النقطة المفصلية، من تحالف اليمين الأيديولوجي الخارجي، واليمين الإسرائيلي سوف يتخذ القرار بقتل ياسر عرفات، ويتراجع وينحسر دور اليسار الإسرائيلي. بحيث بدت نتائج الانتخابات منذ ذلك الحين كنوع من تحصيل الحاصل، لما يقارب العقد ونصف العقد حتى بروز هذه اللحظة، التي تبدو اليوم كمنعطف جديد تبدو فيها مرةً أخرى عناصر ومقومات التوازن الداخلي في إسرائيل، تتناقض وتتعاكس بصورة حادة، مع الاتجاه والمزاج العام لهذا التوازن، في مركز القرار العالمي أي في أميركا وحلفائها الأوروبيين، وحيث في الإقليم يخوض باراك أوباما حرباً من نوع آخر، لإعادة تركيب التحالفات وموازين القوى في المنطقة عموماً، لتأمين الانسحاب او خطوط الإمبراطورية الخلفية، في الحرب الحقيقية والكبرى التي بدأتها أميركا لتطويق الصين والسيطرة على آسيا.
إن هذه اللحظة من التحول الكبير إنما هي اللحظة، التي قرر فيها مصير بنيامين نتنياهو، إذا كان موقع إيران الجيوستراتيجي هو أهم من موقع إسرائيل. إيران اليوم التي يمكنها التدخل عسكرياً على الأرض لحسم المعركة، مع تنظيم الدولة الإسلامية، وكأن التاريخ يعيد نفسه. فقد كان شاه إيران هو الشرطي الإقليمي، واليوم فان صيغة ما يتم الاتفاق عليها، تأخذ بعين الاعتبار مصالح إيران وطموحاتها، في المنطقة جنباً الى جنب مع إرضاء المحور الإخواني التركي السعودي والقطري. هذه هي الأطراف الفاعلة، اللاعبون الحقيقيون، إيران تركيا، والسعودية، وان العدو المشترك لهذا النظام الجديد هما "داعش" وإسرائيل. والذي يحدث بالنسبة للأميركيين هو كيفية إقامة جسر بين العرب السنة وإيران من جهة، وحل المسألة الفلسطينية من جهة أُخرى.
أو ليس في هذا السياق يجب أن نضع زيارة، وزير الخارجية الأردني المفاجئة الى إيران، تماماً كما الحرب على نتنياهو لإسقاطه علناً في إسرائيل؟ وحتى المبادرة المفاجئة للحكومة المصرية، الطعن على قرار اعتبار حماس حركة إرهابية؟ إذا كان القاسم المشترك في كل ذلك، إنما هو تبني أوباما المقاربة التقليدية، في عهد بريطانيا الاستعمارية التي ترى الأكثرية السنية، وليس الأقليات باعتبارها المفتاح، وانه بدلا من الانشقاق او الفتنة السنية الشيعية يجب توحيد الإسلام المعتدل، بجناحيه السني والشيعي ضد الإسلام المتطرف والراديكالي، وأن قاعدة هذه الاستراتيجية، إنما تقوم على تصفية وإقصاء الراديكالية المتطرفة ممثلة بتنظيم الدولة الإسلامية واليمين الإسرائيلي على حد سواء، باعتبار هذا التطرف الإسرائيلي الأخير هو الذي يغذي الإسلام المتطرف.
لا يخفي هذا التحليل ربما قدراً من محاولة التماهي بين الواقع والرغبة غير المسكوت عنها، والتي تصل الى حد التمني والرجاء، في رؤية هذا الرجل وحزبه ينزاحان أخيراً من المشهد. والواقع اننا نحن أيضا وبصراحة شبعنا من نتنياهو، ونريد الآن ان يصل الى الحكم في إسرائيل، دولة العدو، "عدو عاقل". وانه من دواعي حسن الطالع، ان هذه الرغبة، لا تصدر في هذا الوقت عن نزعة إحلالية تستبدل الواقع بإسقاطات وهمية لا أساس لها، وإنما مطابقة للواقع واقر بها حتى الرجل نفسه، الذي بدا يفصح الآن عما يجول في عقله الباطني، من مخاوف وتشاؤم انه ملاق هزيمته، ومرجعا ذلك إلى مؤامرة كونية، تحتشد الآن لإسقاطه على غرار المؤامرة الكونية التي طالما تحدث عنها، في غضون السنوات الأربع الماضية الرئيس السوري بشار الأسد، والتي ما برحت تستهدف إسقاطه، دون ان يدرك سلسلة الأخطاء المنكودة والقاتلة التي ارتكبها في كلا المرتين وأودت به الى هذه النهاية.
ان اليمين المتطرف في إسرائيل لن ولم تعد له القدرة على النماء والتمدد بعد الآن، واذا صحت التوقعات وقدر لبنيامين نتنياهو أن يلقى به خارج الحلبة فان هذا التحول او الانقلاب في إسرائيل ربما يكون معادلاً أو موازياً للانقلاب الرابيني، العام 1992 الذي كان العامل الرئيس في التوصل الى اتفاق أوسلو، وشق المسار السياسي للتسوية بين الفلسطينيين وإسرائيل. ولكن في هذه المرة ليس إعادة الاعتبار لمقتل رابين وعرفات على يد اليمين الإسرائيلي، وإنما انتصار الاعتدال الفلسطيني والإسرائيلي في التفوق على هذا الصراع، الذي شبع منه العالم، وآن له أن ينتهي.
فهل اللقاء الرباعي يوم امس في شرم الشيخ بين جون كيري والرئيس أبو مازن والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني، غير بعيد عن هذا التصور في التحضير لما بعد جنازة نتنياهو السياسية؟ وفي هذا السياق ربما الحل السويسري لقضية رواتب موظفي غزة الذي وافق عليه أبو مازن و"حماس" لإنهاء القضية الرئيسية أمام المصالحة ؟


