لقد اتَّسَع مصطلح «الإسلام السياسي» انتشاراً؛ وهذا المصطلح يَدُلُّ على معانٍ عدَّة، أهمها أنَّ الإسلام (دِينَاً) ينطوي ويشتمل على جُمْلَة من «المبادئ (والمفاهيم والأحكام) السياسية»، التي بعضها على هيئة «النَّص»، وبعضها يأتي به «فقهاء»، أو يتأتَّى من طريق «التأويل»، أيْ من طريق البحث عن «المعاني الخفية» وراء «المعاني الظاهرة» في الكلام الدِّيني، أو النُّصوص الدِّينية؛ ولا بدَّ للمشتغلين بتسييس الدِّين من أنْ يتوفَّروا على إقامة الدليل للعامَّة من المسلمين على أنَّ القضايا والأمور والشؤون السياسية جميعاً لا تُسْتَثْنى من الدِّين، أو من «حُكْم الشَّرع»، أو ما يشبهه، منزلةً، وينبغي لهم (أيْ للعامَّة من المسلمين) أنْ يعتادوا فَهْمَها وتفسيرها دينياً، وأنْ يَقِفوا من كل أمْرٍ سياسي يعنيهم موقفاً دينياً، وكأنَّ ميزان «الحلال والحرام» الدِّيني (الإسلامي) يَصْلُح، أيضاً، لوَزْن «الموقف السياسي»، للفرد، أو الجماعة، به.
وثمَّة مِنْ معارضي وخصوم «الحُكْم الإسلامي» مَنْ يَفْهَم «الإسلام السياسي» على أنَّه «الجماعات والمنظمات والأحزاب التي تتلفَّع بـ «الإسلام» خِدْمَةً لمآربها السياسية، ومِنْ أجل الوصول إلى السلطة».
«الإسلام السياسي»، ولجهة معناه (ومحتواه، وخواصِّه) الواقعي الملموس، ليس بمدار اتِّفاق حتى بين جماعاته ومنظَّماته الكثيرة المتكاثرة؛ فالمُنْتَمون إليه لا يتَّفِقون حتى على ماهيته، ومبادئه، وأُسسه؛ وأحسبُ أنَّ اختلافهم فيه لا يَقِل عن اختلاف الإسلاميين (على وجه العموم) في «الإسلام نفسه»؛ وليس في هذا، وذاك، ما يثير الدهشة والاستغراب؛ فاختلاف الأمكنة والأزمنة، وظروف عيش الناس، ومصالحهم وحاجاتهم الواقعية، لا بدَّ له من أنْ يُتَرْجَم باختلاف في فَهْم الفكر نفسه، أيْ في فَهْم مبادئه عند كَسْوِها بالتفاصيل من حياتهم الواقعية.
وإنَّ من الأهمية بمكان أنْ نقول، في هذا الصدد، إنَّ تاريخ العقائد يُثْبِت ويؤكِّد أنَّ الفكر، أيُّ فكر، يَكْمُن في حاجات ومصالح الناس الواقعية قبل ظهوره، فإذا تَوافَق معها، وخدمها، انتشر وساد وازدهر، وإذا دَخَل في نزاعٍ معها، واحتدم هذا النزاع، فلا بدَّ له من أنْ يتضاءل وزناً وتأثيراً، ويَفْقِد جاذبيته، أو كثيراً منها؛ كما يُثْبِت ويؤكِّد أنَّ البشر يمكن أنْ يناصبوا بديهية هندسية العداء إنْ وَجَدوا أنَّها تتعارَض، أو أصبحت تتعارض، مع مصالحهم (الواقعية).
إنَّ الناس في مجتمعاتنا الإسلامية متديِّنون، على وجه العموم، ولديهم من «الإيمان الدِّيني (وقوَّته)» ما يَحْمِلهم، في استمرار، على أنْ يسألوا عن «الحلال» و»الحرام» في كل أوجه وتفاصيل حياتهم الواقعية (واليومية).
ومن هذا المَدْخَل، مَدْخَل «الحلال والحرام»، تَدْخُل جماعات «الإسلام السياسي»، أيضاً، إلى عقول ومشاعر العامَّة من الناس، فتغدو «السياسة»، مع كل ما يمت إليها بصلة، شيئاً يمكن ويجب قياسه بميزان «الحلال والحرام»؛ وفي هذا على وجه الخصوص يَكْمُن خطر «الإسلام السياسي»؛ فـ «الإيمان الديني»، والذي هو أمْرٌ يَخُصُّ صاحبه فحسب، يتفرَّع ويتشعَّب لِيَشْمَل «التديين» للسياسة، وسائر أوجه حياة الناس الواقعية (أو الدنيوية).
وهذا ما نراه جليَّاً واضحاً في دعوة العامَّة من المسلمين إلى أنْ يَنْتَخِبوا مَنْ (وما) يُمثِّل «الحلال»، ويِكْفوا أنفسهم شرَّ انتخاب مَنْ (وما) يُمثِّل «الحرام»؛ وإلى أنْ يتوفَّروا على تمييز «الحلال» من «الحرام» في مفاهيم ومبادئ وآراء ووجهات نظر ومواقف تنتمي إلى «السياسة»، وإلى «عالمها الواقعي».
بعض الناس العاديين يمكن أنْ يَفْهَم، أو قد يَسْهُل إفهامه، أنَّ «التهجُّم» على ما يسمَّى «الإسلام السياسي»، هو تَهَجُّمٌ على «الإسلام» نفسه؛ وهذا إنْ دلَّ على شيء فإنَّما يدلُّ على أهمية وضرورة تقويض هذه الصلة المصطنعة الزائفة بين «الدِّين» نفسه وبين المتَّخِذين أحزابهم «لساناً سياسياً» للدين؛ ولقد أقامت تجارب المزاوجة بين «الدين» و»السياسة» الدليل على أنَّ هذه المزاوجة لا تفيد إلاَّ في شيء واحد، هو تشويه طرفيها معاً؛ فالدين لا يبقى ديناً، والسياسة لا تبقى سياسةً.
وهذا إنَّما يعني أنَّ الخيار السياسي الأسهل لدى كثير من الناس في مجتمعنا هو موالاة أحزاب «الإسلام السياسي»، والتصويت، في الانتخابات، لمصلحة مرشَّحيها؛ ولطالما سمعنا كثيراً من الناخبين يقولون، بعد إدلائهم بأصواتهم، وهٌمْ «مرتاحو الضمير (الديني)»، «يكفي أنَّ هذا المرشَّح إسلامي»؛ وكفى الله المؤمنين شرور التفكير والتمحيص والتدقيق.. وكل جهد يمكنهم وينبغي لهم بذله توصُّلاً إلى تمييز «الغثِّ» من «السمين»، و»النقد المزوَّر» من «النقد الحقيقي»!
وهذا الالتباس والاختلاط لدى كثير من الناس هو ما غذَّى ظاهرة «الانتهازية السياسية» لدى أحزاب «الإسلام السياسي»، فالأمر (والذي هو اكتساب النفوذ السياسي، ومزيد منه) لا يحتاج إلى حزب يجتهد في كسب مؤيِّدين له كَسْباً سياسياً صرفاً؛ ويكفي أنْ يكون شعاره إسلامياً حتى «يَسْمَن» سياسياً وشعبياً وبرلمانياً، ويزداد «سمنة»!
لكنَّ كل ما تبذله جماعات «الإسلام السياسي» من جهد (فكري) في «تديين»، أو «أسْلَمَة»، السياسة، لا يتمخَّض، في آخر المطاف، إلاَّ عمَّا يقيم الدليل على أنْ لا وجود لشيء يُدْعى «النِّظام السياسي الإسلامي»؛ فهذه «الجماعات»، مع مفكِّريها، إنَّما تُوفَّق في شيء واحد فحسب هو إلباس نُظِمٍ سياسية (عالمية) لا جذور لها، ولا أصول، في الفكر الإسلامي، لبوساً إسلامياً؛ وهذا اللبوس نراه على وجه العموم كالشَّكل الذي في نزاعٍ مع محتواه.
حتى المحتوى نفسه يُفْسَد ويُشوَّه ويُمْسَخ بـ «الانتقائية» و»الاجتزاء» و»الإضافة (التي هي إضافة عناصر لشيء ليست من جنسه)».
وهذا الذي قلناه إنَّما يؤكِّد أهمية وضرورة أنْ نعي ونُدْرِك الفَرْق بين «نظام سياسي إسلامي (لا وجود له واقعياً وتاريخياً)» حتى نخشاه، ونتطيَّر منه، وبين «أسْلَمة» نُظَم سياسية عالمية؛ وهذه «الأسْلَمة السياسية» هي امتداد لـ «الأسْلَمَة الاقتصادية»، والتي فيها، وبها، نرى النظام الاقتصادي الرأسمالي، مثلاً، وهو يرتدي رداءً إسلامياً (كرداء «المرابحة» الذي ترتديه «الفائدة» البنكية الربوية).


