لا يوجد هناك أي وصف في القواميس العربية وأبجديات اللغة، تجسد البشاعة والإجرام الذي ارتكبه تنظيم "داعش" المتطرف بحق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، الذي قضى حرقاً بطريقة غير حضارية ولا إنسانية ولا تمت للإسلام بأي صلة، لا من قريب ولا من بعيد.
قبل معاذ كان "داعش" يصول ويجول في شمال سورية وجنوب العراق، ويفرض ما يسميه دولته الإسلامية بموجبات وأوامر الولاء والطاعة، واستتباع ذلك بمبدأ الثواب والعقاب، ويسترشد في حكمه على المشيخة والنهج الإسلامي الذي هو براء من كل هذه الأفعال المخزية والمشينة.
أي عاقل أو مفكر لا يقبل بأي حال من الأحوال أن يتضامن مع هذا التنظيم المتطرف، الذي جاء إلى سورية والعراق من أجل تفتيتهما وقيام دولة إسلامية ليس لها علاقة بالإسلام، فمثل هذا التنظيم كان يحارب أبناء جلدته من أجل التوسع وفرض برامجه الخاصة.
"داعش" الذي تألف من طغمة مرتزقين وجماعات متطرفة جاءته من كل حدب وصوب، أعلن عن دولته الإسلامية في كل من العراق وسورية، وراح يحارب النظام العراقي من جهة، والنظام السوري من جهة أخرى، حتى أنه يحارب أيضاً الجماعات المعارضة الإسلامية وغيرها، التي يعتبرها منافسة له وبغية توسيع مملكته.
هذا "الداعش" لا ينضم إليه المسلمون ولا العاقلون والمتفكرون المتبصرون في أحوال الأمة العربية، إنما يطرق بابه كل شاذ فكري وعنصري وغير آدمي ولا أخلاقي، خصوصاً وأن الأجندة التي ينفذها تعكس سياسات قادته وأنصاره وكل من يتستر تحت لوائه وعباءته.
أغراض كثيرة يقوم بها "داعش" تستهدف حالة العرب عموماً، فهو يسعى إلى تفتيت الجغرافيا المتماسكة في الترابين السوري والعراقي، ويبدو أن أفكاره لتوسيع نطاق وجوده تتجاوز هذين البلدين، أضف إلى ذلك أنه يتنافس ويحارب باسم الدين الإسلامي، لكنه يقصد بذلك الإساءة إلى هذا الدين.
نعم لقد أساء كثيراً إلى الدين الإسلامي، لأن ديننا لا يقوم على ذلك وليس جوهره القتل والقصاص بهذه الطريقة التكفيرية، وديننا دين يسر وليس عسر ودين تسامح ومحبة واحترام باقي الأديان والتعايش معها، وليس ديناً تكفيرياًَ سادياً.
ليس علينا أن ننساق إلى كل الذين يعتقدون أن دين "داعش" هو دين المسلمين العرب، فهذا كلام غير صحيح على الإطلاق، وكل من يعتقد ذلك فهو مخطئ، ولا ينبغي محاسبة ملايين المسلمين العرب على زمرة من المتأسلمين المزيفين.
لقد زوّر "داعش" في الإسلام وشوهه كثيراً، وما يتبناه هذا التنظيم هو حقيقةً ليس إسلاماً، بل فكر أصولي نازي يستند على الذبح والقتل ورفض الآخر، وأصدق مثال على ذلك، القتل المستمر واليومي الذي يقوم به ضد الناس في سورية والعراق.
ثم إن نماذج القتل التي طالت في الفترة الأخيرة كلاً من الصحافيين اليابانيين، وبعدهما الطيار الأردني معاذ الكساسبة، توضح بما لا يدعو للشك، أن فلسفة "داعش" تقوم على اشتهاء القتل وتجسيد النزعة الحيوانية والمتوحشة.
حين أبصر "داعش" النور في سورية، سكتت دول كثيرة عليه وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، بغرض تحقيق أهداف تتعلق بإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، وأكثر من دولة غربية كانت تعلم أن رعاياها يذهبون إلى دمشق للقتال ضد النظام السوري.
وتلك الدول غضّت الطرف على مرور مواطنيها من أجل الالتحاق بمختلف التنظيمات التي كانت تقاتل داخل الأراضي السورية، لكن حينما تفشى وباء "داعش" وبدأت تظهر ملامحه وغريزته المتوحشة، بدأ الغرب يعيد التفكير من جديد في طرق وقف ومحاربة هذا التنظيم.
وحين بث "داعش" مقاطع فيديو لذبح مواطنين أجانب، استدركت واشنطن ضرورة تأليف تحالف دولي لمحاربة هذا التنظيم، يشمل ذلك التنسيق مع المعارضة المعتدلة في سورية، وتجنب أي نوع من أنواع التعاون مع النظام السوري في هذا الشأن.
واختلطت الأوراق في المنطقة، فبدلاً من تكثيف التوجه الغربي للحديث عن محاربة النظام السوري ودعم المعارضة المعتدلة، صارت الأولوية منصبة في محاربة "الإرهاب" المتمثل في "داعش"، الذي راح يتوسع مثل الفطر في سورية والعراق.
واليوم وبالرغم من الضربات الجوية التي يشنها التحالف الدولي على مدى أكثر من أربعة أشهر، تبين للولايات المتحدة أن "داعش" بحاجة إلى سنوات طويلة للإجهاز عليه، وإلى اللحظة بقي هذا التنظيم متماسكاً وقادراً على المناورة، غير مبالٍ بمختلف الضربات التي يواجهها.
أي أن سورية والعراق سيبقيان يعانيان من موضوع محاربة "الإرهاب"، هذا المنكر الذي سهّله الغرب ووفر له الأرضية الخصبة وصب الزيت على النار في البيئة العربية التي تتوفر لها كل إمكانيات الاشتعال السريع.
لابد لنا أن نلاحظ كيف انحرفت بوصلة الربيع العربي، بين التفكير والبحث في تدوير واقعنا العربي بمعطيات جديدة، وبين ما وصلنا إليه اليوم من انغماس حتى الوحل في محاربة "الإرهاب" وتطور النزاع الداخلي وتفشي الطائفية والعقيدة الإقصائية.
المعظم العربي غادر متطلبات التنمية المستدامة التي أساس ركيزتها الإنسان، وتناسى الاهتمام بالصحة والتعليم والخدمات، وأصبح يركز ويكثف كل جهده في محاربة "الإرهاب" الذي يستنزف وينتقص من فاتورته الوطنية والسيادية والجيبية.
هذا ما أرادته الولايات المتحدة التي جاهرت علناً بالشرق الأوسط الجديد والتي لعبت على حبل التناقضات العربية بغية إضعاف الجسم العربي عموماً، وبقائه تحت رحمة الذل والانكسار وتحت رحمة اللاعبين الدوليين الكبار والشركات الصناعية الكبرى.
دول عربية كثيرة تحتضر وتتوجع بالفعلين والتأثيرين الخارجي والداخلي، وإذا ظل الحال كما هو، فلا عجب أن يتوحش ويستنسخ "داعش" أكثر وأكثر ويطال مناطق لم يحسب لها حساب، والمطلوب أن يتكاتف العرب على كافة المستويات لمعالجة جروحهم العميقة ورأب الصدع الداخلي.
المطلوب استراتيجية عربية جماعية لفرملة ومحاربة "الإرهاب" الذي لا دين له، والانتفاض على الفقر والجوع والبطالة والتخلف، لأن أفضل وسيلة حضارية فعالة لمجابهة واقعنا الكارثي، هي عبر التنوير والتعلم والتثقف والتمسك بالدين الإسلامي ورفض إقصاء الآخر واحترام التعددية ومختلف الشعائر والعقائد الأُخرى.
المطلوب أن يشد العرب "حيلهم" وأن يشمّروا عن سواعدهم لوقف تنظيم "داعش" المتطرف، لأن السكوت عن هذا التنظيم هو مصيبة كامنة قد تقود إلى الانفجار في أي لحظة من اللحظات، والعمل الفوري أصدق من العض على الأصابع، يوم لا ينفع الندم.


