لم تعد إسرائيل وقد دخلت في عتبة الوهن والشيخوخة مبكراً، تثير دهشتنا القديمة، حينما كانت لا تزال في عمر الشباب والبطولة، ولم تعد الآن تثير الخوف والرعب في صفوف أعدائها، بل أصبحت هي التي تخشى وتخاف قوة عقاب وغضب أعدائها. ومن هم أعداؤها الذين يشهرون السيف في وجهها؟ غير مكترثين بقوة نيرانها او غضبها؟ إذ لم يعودوا جيوشاً جرارة وإنما مجرد فصائل صغيرة ولكنها اليوم هي التي توجه اللكمة وراء اللكمة، الصفعة وراء الصفعة الى وجهها. بينما «إسبرطة القديمة» ذات القوة التي لا يمكن قهرها تبدأ في التعود على ابتلاع هذه الضربات المهينة لجبروتها القديم، وتتعلم فضيلة قول السيد المسيح: من ضربك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر، ولم لا؟
قلل من حجم الصفعة التي وجهها لك حزب الله حتى لو مارست الكذب الفاضح بالتكتم على خسائر جنودك وضباطك في سبيل الحفاظ على ماء الوجه، والتراجع لأنك لم تعد تملك القدرةَ على الإقدام بفتح جبهة حربية مع حزب الله كما كذبت وتم الإمساك بك متلبساً بامتهان الكذب في الحرب مع غزة، حتى ولو أظهروا لك بعد ذلك المرة بعد المرة الشريط المصور. إن هذه دولة لم تفقد هيبتها ولكن صدقيتها الإعلامية على حد سواء.
لم يتأخر حزب الله إذن في الرد على تهور وغباء هذا الرجل الذي وصفه عرفات في العام 1996 «بالولد الغر» عديم الخبرة والتجربة، ومع صدور هذا العدد اليوم من صحيفتكم سوف نكون قد استمعنا الى ما قاله الشيخ حسن نصرالله، لنقف على حقيقة المنحنى الجديد الذي سيرسمه. ومن الذي دغدغ رقبة الآخر ولقنه الدرس؟ في هذا المشهد أو الفصل من دراما هذا الصراع المتواصل ومرة أُخرى سوف تصمت وتخرس وتختفي هذه الأصوات الناعقة عن إسرائيل وهول إسرائيل. أولئك المرضى من كارهي الذات المروجين لثقافة الهزيمة. فأي تجربة ترسمها الأقدار حين يكون لفصيل يملك الإرادة والتصميم على القتال ولا يخشى القتال على جبهتين في سورية لحماية الدولة السورية من السقوط، والجولان معاً ومزارع شبعا لكي لا تنحرف البوصلة عن فلسطين.
ان ما يحدث اليوم ليس سوى لحظة الحقيقة بالنسبة للعالم العربي، وقد رأينا منذ البداية هنا وبصورة مبكرة، خطيئة هذا الاصطناع للأزمة السورية، التي سوف تنقلب على رؤوس كل أولئك الذين نفخوا في جمرها، وهذه هي النتائج : ولادة تنظيم الدولة الإسلامية وتمدده وانهدام الخط الأحمر في هضبة الجولان، بإعادة تشكيل الخط الإقليمي والجغرافي للصراع. أي أقلمة الصراع بل وعولمته، حيث «داعش» التي هي نتاج لتطرف الغرب في حرب مع هذا الغرب، فيما تبحث المقاومة اللبنانية والفلسطينية، اليوم بغطاء ودعم إيراني عن صيغة جديدة، تكون مؤطرة لتوحيد جبهة المقاومة، في مواجهة إسرائيل. بينما بنيامين نتنياهو يواصل محاولاته تقويض الرئيس أبو مازن أي خيار التسوية التاريخية الممكنة، ليسير على طريق أسلافه إيهود باراك وشارون، الذين تسببوا بتدمير اتفاقية أوسلو. في الوقت الذي لا يطرح فيه غياب أبو مازن وخياره وهو خيار عرفات نفسه، غير إحلال الخيار الإيراني لإملاء هذا الفراغ الذي هو تسليح الضفة الغربية كما لوحت إيران علناً وعلى رؤوس الأشهاد مؤخراً. وحيث يبدو لهذا السبب أن السباق اليوم يدنو من أمتاره الأخيرة بين مناورات باراك أوباما وأوروبا لتقويض هذا الرجل وإسقاطه عن الحكم في الانتخابات القادمة، وبين الهجوم الإيراني القادم عبر الانخراط المسلح واللوجستي في الصراع مع إسرائيل لتقويض وإسقاط الوجود المادي لهذه الأخيرة. وان مساحات الاشتباك القادمة او المعركة القادمة قد يعاد رسمها لتمتد من الجولان وشبعا وصولا الى الجليل والضفة الغربية.
والراهن اليوم ان جميع الأطراف المعنية بهذه اللعبة تملك استراتيجية ما عدا إسرائيل، ان إيران وأميركا وأبو مازن و»حماس» وحزب الله يمتلكون استراتيجية ويعرفون ماذا يريدون، بينما إسرائيل وحدها تبدو اليوم بدون امتلاك هذه الرؤية او الاستراتيجية، او في أحسن الأوضاع تواصل العمل باستراتيجية متقادمة. فكيف لك أن تغامر بتقويض خيار السلام، اذا كنت تخاطر ببديل عن ذلك بمواجهة كل هؤلاء نصف الدزينة من الأعداء المستعدين لمحاربتك وتدفيعك الثمن ولا تملك أنت القدرة على محاربتهم؟ كيف تواصل البناء في المستوطنات والتوسع في الضفة الغربية بينما أنت لا تستطيع حماية تل أبيب؟ وبت تنسحب او تهرب من بداية الحرب وسماعك أول صلية من إطلاق الرصاص.
لكن ألهذا السبب الأولوية الآن هي لبناء التحالف الاستراتيجي مع إيران من اليمن الى العراق وحتى سورية ولبنان غداً؟ لمواجهة التمدد العملاق الآسيوي الصيني، وتأمين الانسحاب من أفغانستان ومواجهة موسكو و»داعش» على حد سواء؟ فان نتنياهو هو الذي يجب تقويضه، وإخراجه من اللعبة؟
ان الطريقة التي رد بها حزب الله على اغتيال كوادره في القنيطرة، انما تحددت وفق قاعدة التناغم او مواءمة الحسابات الإيرانية في العلاقة مع أميركا، على خلفية الحوار الجاري بينهما بشأن الموضوع النووي. رداً موجعاً ومهيناً لإسرائيل بالدلالة الثأرية والتأديبية ولكنه ليس محرجاً لأميركا، ولا يستدعي او يجر الى حرب واسعة، أقله حتى تمرير القطوع الحالي الى نهاية آذار المقبل، نتائج الانتخابات في إسرائيل. وقطوع الحوار الحاسم بين إيران والغرب بشأن الموضوع النووي، وبعد ذلك لكل حادث حديث. ومن هذا الحديث ان كان هذا الحوار سينتهي الى الفشل، وهو ما يعني إعادة تفعيل الجبهات الشاملة مع إسرائيل.
لكن الواضح الآن، ان الحرب الأخيرة مع غزة ومبادرات الرئيس محمود عباس غير المسبوقة في تحدي نتنياهو الى جانب دلالة رد حزب الله، انما هي التي تحدد بعد الآن قواعد اللعبة، في الصراع مع إسرائيل كما مستقبل إسرائيل، وليس نتنياهو ومعسكر اليمين الذي يبدو أنه بدأ سقوطه التاريخي في إسرائيل، اذ بالأخير من برهن انه يملك استراتيجية التقويض ليس نتنياهو وإنما أبو مازن وأوباما، و»حماس» وحزب الله وإيران، التي تلتف لتحيط اليوم بجغرافية الخليج العربي والسعودية، وصولا الى أعتاب الجولان وجنوب لبنان، وحيث تنظيم الدولة الإسلامية الذي يتنافس مع إيران ويتصارع معها، هو الذي يخترق الآن في سيناء على حدود إسرائيل من الجنوب. وهو ما يعني اكتمال الطوق، وانه في غضون هذا التحول يجب ان نضع التغييرات الكبرى التي بدأ في أحداثها مبكراً هذا العاهل الجديد، ولكن القوي في السعودية. ثمة أشياء كبيرة تسقط في المنطقة وأشياء كبيرة تولد.


