مما لا شك فيه أن جانباً مهماً من الصراع الدائر حالياً في بعض الدول العربية التي ضربتها عاصفة (الربيع العربي) فتركتها هشيماً تذروه رياح تفتتاً. التطرف و الحروب الأهلية ، و بعض الدول التي خفضت رأسها للعاصفة فخرجت بأقل الأضرار ، و البعض الآخر الذي لا يزال ينتظر العاصفة و ما بدّلت تبديلاً و استمرت على نهجها القائم على الاستبداد و الفساد. هو صراع على هوية الدولة المنشودة ، التي يريدها البعض إسلامية استناداً إلى مفهوم الأمة الإسلامية و ارتكازاً على العقيدة الإسلامية، بينما يريدها البعض الآخر قائمة على أساس مفهوم الوطن الذي يضم كل المنتمين له بغض النظر عن عقيدتهم و دينهم و عرقهم و لسانهم ....، و بين هذين التيارين –الإسلامي و الوطني –تيارات عديدة بعضها ينبش في ركام تاريخ الفتن ليعثر على هوية مذهبية لم تزد الأمة إلا انقساماً و الوطن إلّا تفتتاً . و بعضها يفتّش في الدفاتر القديمة لأنظمة حاكمة فالتالي:ثر على هوية قومية لم تزد شعوبها إلا خسارا ، و دولها إلا فساداً و استبداداً. و في صياغة أخرى لصراع الهوية يمكن توجيه السؤال التالي : هل جنسية المسلم و هوية دولته تقوم على أساس انتمائه لعقيدته أم انتمائه لوطنه ؟ و للإجابة على هذا السؤال لا بد من العودة إلى أصول هاتين الفكرتين في العصر الحديث.
جاء في فصيلي:سية المسلم و عقيدته) من كتاب (معالم في الطرالإسلامية. الإسلامي (سيد قطب) ما يلي :" لا وطن للمسلم إلّا الذي تُقام فيه شريعة لله ..و لا جنسية للمسلم إلّا عقيدته التي تجعله عضواً في الأمة الإسلامية ... ولا قرابة للمسلم إلّا تلك التي تنبثق من العقيدة..." . و من قبله قال الإمام (حسن البنّا) مؤسس جماعة (الإخوان المسلمين ) في نفس المعنى "إننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة ، و هم يعتبرونها بالتخوم الأرضية و الحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وطن عندنا له حرمته و قداسته و حبه و الإخلاص له و الجهاد في سبيله . و كذلك موقف معظم مفكري الحركة الإسلامية يتمحور حول هذا الرأي الذي يعتبر الرابطة الإسلامية القائمة على أساس العقيدة هي الأساس في تحديد جنسية المسلم و هويته و انتمائه ،و تأتي الروابط الأخرى بما فيها القومية و الوطنية في إطارها و لاحقة لها .
و لقد فرّقت الحركة الإسلامية بين مفهوم الوطنية بمعنى الحب للوطن و الدفاع عنه و تحريره و السعي لخيره، و هو مطلوب دينياً، وبين مفاهيم : الوطنية القطرية الانفصالية كنقيض لمفهوم الأمة الإسلامية ووحدتها ، و الوطنية العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة كنقيض لمفهوم الدولة الإسلامية ، و الوطنية العصبية المرتكز ة على العرق كنقيض لمفهوم الوطنية المرتكزة على العقيدة. كما أن هذا الفهم التقليدي لهوية و جنسية المسلم قد تعّرض للتغيير و التطور على يد بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين و أهمهم الدكتور حسن الترابي في السودان و الأستاذ راشد الغنوشي في السودان حيث أصبح هناك قبول للدولة الوطنية القائمة على فكرة المواطنة و ليست العقيدة.
و في المقابل فإن التيار الوطني الذي برز في مصر بعد ثورة عام 1919 ، وقف على النقيض من التيار الإسلامي في موضوع الهوية الجمعية التي تعطي مصر هوية وطنية متميزة عن محيطها العربي و الإسلامي ، و منفصلة عن الجغرافيا العربية و التاريخ الإسلامي ، و تربط تاريخها بالفراعنة، و مستقبلها بأوروبا . و من أهم رموز هذا التيار (أحمد لطفي السيد) مؤسس( حزب الأمة ) المصري الذي كتب في مجلته (الجريدة) يقول :" إن أول معنى للقومية المصرية هو تحديد القومية الوطنية ، و الاحتفاظ بها و الغيرة عليها غيرة التركي على وطنه، و الانجليزي على قوميته، لا أن نجعل بلادنا على المشاع وسط ما يُسمّى الجامعة الإسلامية ". و كذلك من رموز هذا التيار عميد الأدب العربي الدكتور (طه حسين) الذي دعا إلى الوطنية المصرية المنفصلة عن محيطها العربي و الإسلامي ، و ربطها بالغرب الأوروبي و هذا ما عبر عنه في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) بقوله " مصر ثقافياً و حضارياً هي دولة غربية بكل ما تعنيه الكلمة من دلالة" و كذلك المفكر المصري القبطي (سلامة موسى) الذي نادى بالبحث عن معالم الشخصية الوطنية المصرية في جذورها الفرعونية ، و اعتبار الفرعونية هي الأساس في انتماء المصريين لوطنهم ، و استبدال الحروف العربية بحروف لاتينية و اللغة العربية الفصحى باللهجة العامية المصرية . و هذا التيار الوطني القطري منتشر في كل الأقطار العربية تقريباً. حيث يُقّدم الهوية الوطنية القطرية على الهوية الإسلامية الأممية. و يجعل رابطة الوحدة الوطنية مقدمة على رابطة الوحدة الإسلامية.
و في الختام فإن الإشكالية في التناقض الموجود بين هذين التيارين و الصراع بينهما ناتجة من أسباب عديدة منها : النظرة الإلغائية التي يحاول من خلالها كل تيار إقصاء الآخر و استبعاده من منظومته الفكرية ، و فرض مفهومه الخاص للهوية الفردية و الجمعية. و منها محاولة ربط مفهوم الوطنية بالعلمانية التي تفصل الدين عن الدولة و في صورها المتطرفة تُعادي الدين، مع أنها في الأصل مفهوم محايد قد يرتبط بالدين أو بالعلمانية أو بغيرها. و منها سوء الفهم المتراكم لموقف الإسلام من غير المسلمين في الدولة الإسلامية الذي نتج عن تطبيق خاطئ لهذا الفهم شوّه مفهوم (أهل الذمة) و أعطاه صورة سلبية تتنافى مع ما طبّقه الرسول –صلى الله عليه وسلم_ في دولة المدينة التي كان تحكمها (الصحيفة) دستور دولة المدينة التي اعتبر سكان المدينة (أمة من دون الناس) و سكانها من غير المسلمين (لهم ما لنا و عليهم ما علينا) التي تعني المساواة في الحقوق و الواجبات بين سكان الدولة مهما اختلفت أديانهم و أعراقهم و هو ما يُعرف حديثاً بمفهوم المواطنة. وفي الحقيقة فإن الانتماء للعقيدة و الهوية الدينية لا تناقض الانتماء للوطن و الهوية الوطنية.غ687


