هل بلغنا عند هذا المنحنى من الصراع لحظة الذروة التي تبدأ عندها تفاعلات مجموع التراكمات الكمية، الدخول في عتبة التغيرات النوعية، لترسم ملامح وطبيعة هذه القفزة التاريخية؟ إذ قل لي ماذا عساها أن تكون هذه المتغيرات الجديدة والمتداعمة بل ونادرة الحدوث في كثافتها الزمانية، عند هذه اللحظة في سياق الصراع إن لم تكن تجلياً واضحاً لهذا القانون الذي تحدث عنه الديالكتيك الماركسي؟ وإذا لم نكن الآن إزاء هذه الطفرة التي توشر إلى حدوث الانقلاب الثوري أو الاختراق الراديكالي في هذا الوضع، فما هو المفهوم الآخر أو المقاربة الأُخرى التي يمكن أن تصلح لأن تكون وعياً مطابقاً لهذه اللحظة؟ او المرشد لنا لفهم مجموع هذه العناصر التي تبدو كألواح خشبية عائمة تطفو على سطح النهر؟ حين يبدو مشهد الصراع وكأنه يستدعي مشهداً آخر من التاريخ من ذكرى الفصول الأخيرة لعمليات نزع الاستعمار، حتى ليبدو هذا المشهد الجاري امامنا يصح وصفه بامتياز بأنه زمن احتضار آخر احتلال. وهذه هي العلامات:
1- منذ متى رأيتم إسرائيل بقضها وقضيضها لا تعرف النوم وهي ترتعد او ترتجف خوفاً تحت تأثير رد فعل طرف عربي أو غير عربي او في الإقليم، كما هو حاصل الآن بانتظار ما يقرره سماحة الشيخ حسن نصر الله؟ حتى ليبدو ان صمت هذا الأخير يقتلهم. فأين سيضرب خليفة شيوخ جبل عامل حلفاء الشيخ ظاهر العمر مؤسس أول كونفدرالية اتحادية للقبائل العربية والسلف العظيم والحقيقي لياسر عرفات على هذه الأرض؟ وما الذي جرى لذراع إسرائيل الطويلة إذا كانت هذه الذراع تستطيع أن تضرب في الجولان ولبنان وغزة ولكن ليبدؤوا بعد ضربة متهورة في حبس أنفاسهم تحسباً للعقاب. والراهن ان هذا تحول لم تكن له سابقة حتى في زمن جمال عبد الناصر.
2- منذ متى يستطيع زعيم فلسطيني هذه المرة ان يجر قادة إسرائيل وإسرائيل نفسها الى محكمة دولية؟ ليستطيع محمود عباس الذي يمثل أقصى الاعتدال في مفارقة تدعو للتأمل، ان يجر الإسرائيليين الى الحفرة التي حفروها بأنفسهم بعد ان عاثوا في الأرض فساداً وأوغلوا في دماء الفلسطينيين؟ منذ متى حدث ذلك، وكانت الكلمة الوحيدة الغائبة عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ العام 1948 هي «المحاسبة» محاسبة إسرائيل التي واصلت الإفلات من العقاب على الجرائم والمذابح الجماعية التي ارتكبتها بحق المدنيين الفلسطينيين العزل.
3- منذ متى حدثت هذه المشاجرات التي هي أشبه بتبادل اللكمات من تحت الطاولة بين إدارة أميركية وربيبتها المدللة سابقاً إسرائيل؟ وحيث القاعدة ان الخلافات تبقى في الغرف المغلقة وراء الأبواب التي يجري التكتم عليها وإبعادها عن الإعلام، والاستثناء في حالات نادرة انتقالها للعلن. فما الذي وقع أو جرى لأن تتجاوز الأزمة المعلنة هذه المرة مجرد كونها رشقة مطر عابرة ليتحول الوضع الى أشبه بطقس دائم السوء؟
4- والجواب في النقطة الرابعة: إذ منذ متى يصبح قادة إسرائيل منبوذين وغير مرحب بهم في الغرب، «فرنسا مثالا في مسيرة الجمهورية»؟ والمسألة واضحة، اذ ما الذي تبقى من الدور الوظيفي لإسرائيل في المنطقة خدمةً لمصالح الإمبريالية؟ والجواب صفر، والأنكى من ذلك ان هذه الدولة وقد فقدت رشدها أصبحت مصدراً للنكبات التي ما برحت تلاحق هذا الغرب، «داعش» في الطبعة الأخيرة بعد «القاعدة».
5- صحف يوم الجمعة الإسرائيلية هي التي ستنشر فحوى المحادثة القاسية بين أوباما ونتنياهو التي جرت يوم الاثنين والعنوان كان لافتاً: «نقمة أوباما». ونعرف الآن ان هذا الرجل المنتفخ غرورا كالضفدع وضع نفسه في مواجهة أوباما الذي هو القيصر في مثل هذه العلاقة، وقامر باللعب مع أعضاء من جمهوريين يمينيين من الكونغرس، وان هؤلاء وجهوا له دعوة او هو دعا نفسه لإلقاء خطاب أمام هذا الكونغرس بغرفتيه، الشيوخ والنواب، من وراء ظهر الإدارة وبصورة مخالفة للأعراف والتقاليد الدبلوماسية، وانه حاول اللعب مع هؤلاء للتشويش على إستراتيجية أوباما للتقارب مع إيران، وهنا إذ شعر أوباما بالإهانة والغضب أسمعه الكلام الذي رأى أنه يجب أن يقال له، وقد سمح لنفسه بتجاوز حدوده بأنه لن يكون مرحباً به من لدن الإدارة الأميركية، ولن يستقبل من قبل الرئيس ولا وزير الخارجية او أي مسؤول آخر. كما قال له هولاند انه غير مرحب به في فرنسا قبل ذلك.
6- وقد ظللنا الى الآن نذكر الموقف الشهير والحاسم للرئيس آيزنهاور في إرغام إسرائيل على الانسحاب عام 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر، وكنا قد اعتقدنا منذ الحرب الأخيرة على غزة وحتى قبل ذلك بقليل ان ما يحدث هو تحول لا سابق له في العلاقة بين إدارة أميركية وإسرائيل، وان ما يبدو على السطح كما لو انه صحوة اوروبية بعاصفة الاعترافات البرلمانية بدولة فلسطين، انما يتم بإيحاء أميركي وليس سوى مقدمة تدحرج كرة الثلج.
7- والمسألة واضحة، ان محاولة كسب إيران اليوم تتقدم على التحالف الذي بات متعباً وقضية خاسرة مع إسرائيل، وقد بدأت الآن عملية إعادة موضعة هذا التحالف في حدوده التي تتناسب وحجم دور إسرائيل، الذي لم يعد دوراً محورياً في خدمة مصالح الإمبراطورية الجديدة في المنطقة، بعد أن أصبح الهدف الرئيسي الصراع على آسيا، وإيران هي التي تملك الوزن المحوري في هذه الاستراتيجية الى جانب تركيا وليس إسرائيل.
8- دعونا اذاً نتأمل في هذا المتغير الآخر الذي يطال صورة الشرق الأوسط الجديد، فبعد الدماء التركية التي سالت على يد إسرائيل، في أحداث سفينة مرمرة التي لم تسوّ بعد، ها ان دماء إيرانية تسال بعد عملية الاغتيال في القنيطرة السورية، ونعرف اليوم بعد التصريحات الإيرانية النارية والمتوعدة، ان إيران بعد تركيا أصبحتا مدميتين مع إسرائيل، وهما القوتان الإقليميتان العظيمتان، واللتان راهن عليهما بن غوريون في الخمسينات والستينات، كدول الطوق الخلفية التي تحاصر دول الطوق العربية. هما اليوم تسدان فراغ غياب دول الطوق العربية لتكونا في صدارة المواجهة الفعلية مع إسرائيل.
9- ولكن ربما يبقى في أساس كل هذه المتغيرات تحولات تاريخية حدثت في سلوك كلا الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء، ولكن بصورة مفارقة: الأول يتمثل بقرار اتخذه الفلسطينيون على كافة مستوياتهم الشعبية والرسمية السلطوية والفصائلية وفي كافة أماكن توزعهم الجغرافي، في غزة والقدس ورام الله وأراضي العام 1948 بالرد المباشر على أي فعل تقدم عليه إسرائيل، أي اتخذوا القرار بتوسيع مجال الاشتباك مع إسرائيل حتى من دون اتفاق مسبق وانما بصورة تلقائية. وسوف يسجل هنا للمقاومة الغزية في الحرب الأخيرة انها هي التي رسمت الخط على الرمال، لنرى بعد ذلك في انتفاضة المقدسيين وعمليات المقاومة الشعبية والفردية، السلمية وغير السلمية، والعنفية وغير العنفية، الى جانب ذهاب الرئيس أبو مازن لمجلس الأمن والانضمام الى الجنائية الدولية، وما يحدث اليوم في بلدة راهط بالنقب، وحتى الاتفاق التاريخي لأول مرة بين الأحزاب الفلسطينية على قائمة موحدة في داخل أراضي العام 1948، في الانتخابات باعتبارها جميعاً رداً موحداً وغير مسبوق في تكامليته.
10- أما التحول الثاني فهو يتمثل بانحسار الدور القيادي التاريخي لنوعية من الزعامات الإسرائيلية، منذ مقتل رابين وهو تحول تزامن مع انحراف متصاعد وجارف في أوساط الطبقة السياسة الحاكمة في إسرائيل نحو اليمين الفاشي والديني، ما أفقد إسرائيل ميزة التفوق القيادي الذي ظلت تحتفظ به في العقود الأولى من إنشائها، الأمر الذي يجعلنا نفترض اليوم ان الاتجاه الاستراتيجي الشامل للضغوط التي تمارسها أميركا والغرب الأوربي على إسرائيل، إنما تستهدف إسقاط هذا اليمين، وهو إجراء من شأنه ان يفتح المجال لعودة الحل السياسي والعقلاني أو التسوية التاريخية لهذا الصراع وهو المغزى الوحيد لما يحدث.
11- إذا قرر حزب الله وإيران الرد على إسرائيل والأرجح ان القرار بهذا الشأن قد اتخذ وانتهى الأمر، فان الشيخ حسن نصر الله وحليفه الإيراني يأخذان إسرائيل من النقطة بالغة السوء والتضعضع في وضعها الاستراتيجي، بحيث يبدو رده عليها جزءاً لا ينفصل من ردود العالم على أفعالها. وإذا كان الافتراض السائد ان هذا الرد لن يكون مدمراً وصاعقاً فقط كما قال الإيرانيون وإنما نوعياً بكل ما تعنيه ضربة من هذا النوع من إيقاع الألم بإسرائيل، وإذا كان من الجائز لنا التوقع والتخمين فان هذه لحظة التحول التاريخي في حروب إسرائيل بحيث تبدو تكتيكات «حماس» في الحرب الأخيرة بالانتقال الى الهجوم في ارض العدو هو الاحتمال هنا في أي مواجهة بين حزب الله وإسرائيل.. تحرير إصبع الجليل كما ألمح نصر الله في وقت سابق وكما بدا أن «حماس» تجرأت على ذلك عبر عمليات خلف الخطوط، الهجوم على قاعدة زيكيم مثالاً، او ان يكون الاحتمال رؤوساً مقابل رؤوس، باختيار أهداف تمس عصب القيادة الإسرائيلية نفسها، كما لا يمكن أن نستبعد سيناريو الصواريخ بما يشمل أيضا فرض الحصار الجوي والبحري على إسرائيل، وان أي سيناريو من هذه الاحتمالات يجعل من هذا الرد بمثابة الذهاب إلى حرب سوف تطرح لأول مرة على بساط البحث أسئلة غير مسبوقة على إسرائيل.


