إننا جميعاً على أرض فلسطين - مسلمين ومسيحيين - في شراكة حقيقية؛ قدرنا واحد ومصيرنا واحد، فإما أن ننهض معاً أو نسقط معاً، فلا كرامة ولا أمن ولا قيامة لوطن إذا شعر جزءٌ من أبنائه بالتمييز وبأن حقوقهم منقوصة فيه.
إن المسار التاريخي للنضالية الفلسطينية قد شهد عطاءات وتضحيات لكل مكوناتنا الإسلامية والمسيحية، حيث قدم الجميع؛ الأغلبية والأقلية، من صفحات البسالة والفداء دفاعاً عن عروبة أرض فلسطين ما لا يمكن غمطه أو تجاهله.. ونحن إن كنا هنا نحرص على إظهار تجليات علاقاتنا الإسلامية – المسيحية المعاصرة، فإن الهدف هو فقط للتذكير بأننا نشكل امتداداً لحالة تاريخية نعتز بها وبكل ما احتوشته من صفحات عزٍّ ومواقف نفتخر بانتسابنا جميعاً إليها.
إنني لن أنسى تلك الكلمات الشجاعة والوطنية بامتياز التي أطلقها الأب مانويل مسلم إلى أهالي غزة، التي أصبحت مساجدهم غير آمنة أثناء الحرب العدوانية الأخيرة على القطاع ولجأ البعض للكنائس طلباً للأمان، حيث قال: "إذا هدموا مساجدكم فارفعوا الآذان من كنائسنا".. كلام يوزن - وطنياً - بماء الذهب، ويعكس حجم الترابط والأخلاقية الدينية الحقة، التي تجمع أهل هذا الوطن بمسلميه ومسيحييه.
كما أذكر أيضاً للأب مسلم؛ راعي الكنيسة المسيحية السابق في قطاع غزة، كلماته المعبرة تجاه المقاومة الفلسطينية، وما تضمنته من المعاني والدلالات القيمية الراقية، حيث قال: "يتهمونني بأني حماس.. وهذا وسام فخر أعتز به، وأضعه على صدري".
هذه هي روح الفلسطيني المسيحي النبيل، والتزامه تجاه أهله ووطنه.
محطات تاريخية:
لا شك أن العلاقة الإسلامية المسيحية خارج سياق أرض فلسطين قد تشوبها اليوم الكثير من التوترات وسوء الظن، وهي مختزلة في تعبيرات متطرفة وعمليات قتل وإرهاب، تمارسها بعض الدول الغربية ويكون ضحاياها شعوب وأقليات مسلمة بما يطلق عليه إرهاب الدولة، ويقابله عمليات استهداف يقوم بها أفراد أو جماعات إسلامية موصوفة بالغلو والتشدد.
ومن الجدير ذكره، الإشارة كذلك إلى أن العلاقات الإسلامية المسيحية في زمن الحروب الصليبية، وأيضاً في الفترات التي شهدت مواجهات دامية في الأندلس، ليست هي الفترة المفضلة لتقييم مسار تلك العلاقة؛ باعتبار أنها كانت مدفوعة بتطلعات استعمارية وأحقاد سياسية، وتم توظيف الدين فقط كذريعة لتبرير تلك الحملات.
لذلك؛ نحن سنضرب الذكر صفحاً عن تلك المشاهد والوقائع التاريخية، ونحاول تناول واقع العلاقة وأبعادها من زاوية المواطنة وحالة التسامح الديني الذي تعيشه الأقلية المسيحية على أرض فلسطين.
بالطبع هناك اليوم بعض الأحداث التي تستدعي منَّا الرد عليها، وذلك لما لها من انعكاسات على علاقاتنا الإسلامية – المسيحية، كتلك التي وقعت مع مطلع هذا العام الجديد 2015م، وما صاحبها من تغطيات إعلامية سلبية توجب علينا تناولها والرد على بعضها.
أولاً) الاعتداء الذي استهدف موقع صحيفة (شارلي ابيدو) الفرنسية
لا شك أن هذا العمل الوحشي الذي راح ضحيته اثنا عشر شخصاً من الإعلاميين والعاملين بمبني الصحيفة، واتهم فيه الأخوان سعيد وشريف كواشي؛ وهما فرنسيان من أصول جزائرية مسلمة، هو فعل مدان بكل معنى الكلمة، وقد جاء هذا العمل الإرهابي على خلفية نشر الصحيفة المذكورة لبعض الرسومات الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، الأمر الذي أثار موجات احتجاج غاضبة للمسلمين حول العالم. من هنا؛ فإن مثل هذا العمل، والذي يمس مقدساً لدى مليار ونصف المليار من المسلمين، سوف يستفز بعض البسطاء ويدفعهم عاطفياً باتجاه الرغبة في الانتقام.
وكما أننا ندين كل الأعمال التي تسيء للرموز والمقدسات الإسلامية، فإننا في الوقت نفسه نشجب ونستنكر استهداف المدنيين تحت أية ذرائع دينية، ونعتبر أن هذا عملٌ إرهابيٌّ، وهذا ما أجمعت عليه معظم الهيئات الدينية والمؤسسات الإسلامية في في كل أرجاء العالم، وقد أصدرت حركة حماس بياناً واضحاً وصريحاً بإدانة هذا العمل، وحذرت من محاولات إسرائيل استغلاله للتغطية على إرهاب الدولة الذي تمارسه ضد الفلسطينيين.
ثانياً) ما يجري من مواجهات مسلحة في العراق وسوريا
يقود الغرب اليوم حملة دولية عسكرية، بهدف القضاء علي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وكسر شوكة نفوذه في المنطقة.. لا شك أن مثل هذه الحروب بأبعادها الاستعمارية وما تحمله لغة المواجهة فيها من خطابات بنكهة دينية، سوف يكون لها انعكاسات سلبية على طبيعة العلاقة الإسلامية – المسيحية بشكل عام، وأيضاً لن ننجو نحن في فلسطين من بعض ذيولها. مما يستدعي بعض القول والصراحة.
نحن كإسلاميين أوضحنا في أكثر من مرة بأن ما يجري في المنطقة من صراعات دامية، ومن تدخلات عسكرية غربية، ليس له علاقة بما نحن عليه كفلسطينيين، حيث نعاني من حالة احتلالية توجب علينا - مسلمين ومسيحيين - ألا ننجر وراء ما يدور من صراعات خارج أرضنا التاريخية، والتي لا تخفى أبعادها على أحد، وليس هناك إجماعٌ إسلاميٌ أو دوليٌّ حول أهدافها.
لذلك، نحن الفلسطينيون؛ المسلمون والمسيحيون، لنا بوصلة تعرف طريقها وهدفها المنشود، الذي لن نقيل عنه ولا نستقيل.
ثالثاً) حماس وبابا نويل: بين الاحترام والشراكة الوطنية
قام د. موسى أبو مرزوق؛ نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، ووفد من الحركة في قطاع غزة، بزيارة للكنيسة لتهنئة إخواننا المسيحيين في غزة بأعياد الميلاد.. في الحقيقة، كانت هذه الزيارة هي لفتة ذكية من قيادة حماس، وهي تستحق الشكر والتقدير والثناء؛ لأنها تعبر عن وحدة أبناء الوطن الواحد، وعمق الالتزام بالهوية النضالية، وتشكل صفعة على وجه كل من يحاول اللعب أو العبث بورقة الطائفية الدينية على أرض فلسطين.
لا شك أن هذا يعتبر تطوراً ذا مغزىً مهم في الفهم الديني والسياسي والقيمي لحركة حماس.. أتذكر أنني في نهاية عام 2006م تلقيت تكليفاً من رئيسي في الحكومة بالقيام بزيارة لتهنئة الكنيسة بعيد الميلاد المجيد، وهذا ما قمت به بكل حماسة وترحيب، حيث زرت الأب مانويل مسلم، راعي كنيسة اللاتين، ونقلت له تهاني رئيس الوزراء والحكومة بأعياد الميلاد المجيد ورأس السنة الجديدة.
إن الأب مانويل هو فلسطيني بجرعة نضالية زائدة، وصاحب مواقف متقدمة باعتزازه بالمقاومة وحركة حماس، وكثيراً ما شعرنا في أحاديثنا معه بأنه في انتمائه الوطني أقرب إلينا من حبل الوريد.
وبعد أن أنهيت زيارتي الخاطفة للكنيسة، أبديت رغبتي بالمشاركة في مراسم احتفال رأس السنة، ومبادلة التهنئة للكثير من إخواننا المسيحيين؛ شركاء هذا الوطن من ناحية، ووجدتها كذلك - من ناحية أخرى - هي فرصة أمام كاميرات العالم لإظهار وجه حماس المعتدل والمتسامح دينياً، وخاصة أن حركة حماس –آنذاك - كانت تتعرض لمحاولات تشويه صورتها وإلباسها ثوب الشيطان، وملاحقتها باتهامات التطرف والإرهاب.. ولكنني - للأسف - وجدت اعتراضاً أثار دهشتي واستغرابي، حيث إنني شعرت وكأنني أقوم بخطوة تطبيعية غير مقبولة، وتعدياً يمس جوهر الاعتقاد وحرماته الدينية.!!
لقد شعرت – آنذاك - بالحزن والأسى لمثل هذا الفهم المغلوط للدين وعلاقاتنا كمسلمين بالآخر، والذي هو من وجهة نظري وإدراكي كإسلامي أنه غير حكيم ولا مدروس.
لقد عشت حوالي عقدين من الزمن في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت لنا علاقات صداقة وطيدة؛ كإسلاميين وأقلية فلسطينية، مع الكثير من الجمعيات الكنسية والشخصيات المسيحية هناك.. وكنا نشاطرهم الكثير من الهموم التي نشعر بها، وكنا نجد منهم تفهماً لمشكلاتنا، ونستشعر مواقفهم الداعمة لنا، سواء كفلسطينيين أصحاب قضية إنسانية عالمية، أو كمسلمين تعرضنا للظلم الفادح من قبل الأجهزة الأمنية الأمريكية، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، حيث وجدنا في الكثير من أصدقائنا المسيحيين هناك، ومؤسساتهم الاجتماعية، من يقف إلى جانبنا، مدافعاً عن حرياتنا ومطالباً باحترام حقوقنا المدنية.
لقد بذل الكثيرون منهم جهداً مشكوراً ومقدراً لمواساتنا، وكانوا يشاركونا التهنئة والمجاملات في أعيادنا الدينية والوطنية.
إن هذ الروح الإيجابية من التآخي الإسلامي المسيحي التي تعيشها جالياتنا المسلمة في الغرب، هي التي شكلت عقليتي وفهمي للعلاقة مع الآخر الديني؛ علاقة تسود فيها مشاعر الحب والوئام، ومظاهر التسامح والعمل على أرضية من القواسم الإنسانية المشتركة.
لأخي د. موسى أبو مرزوق كل التقدير لهذه الخطوة الجريئة والصحيحة لتصويب مسار العلاقة وتأكيدها، فنحن كمسلمين ومسيحيين مواطنون أصلاء في هذا البلد، ونشكل الحاضنة والمهد الحضاري والديني للحنيفية السمحة، التي دشنها سيدنا إبراهيم عليه السلام.
وإذا كانت هذه الصور التذكارية لوفد حماس في الكنيسة لم تهضمها أذواق البعض من شبابنا الإسلاميين أو تروق للبعض الآخر من إخواننا السلفيين، فإننا ندعوهم لقراءة كتب السيرة النبوية ونهج رسولنا الكريم في التعامل مع أهل الكتاب، وكذلك مطالعة الكتب التي تناولت فقه الأقليات وتاريخ المسلمين في الأندلس، حيث إن الأصل في العلاقة كان هو الاحترام والتسامح الديني من زاوية "لكم دينكم ولي دين".
غزة عنوان العلاقة الدينية الأخوية والتعايش الوطني
في عام 2012م، شاركت في مؤتمرين تناولا واقع العلاقة الدينية ومستقبلها بين المسلمين والمسيحيين، وكانت المسافة الزمنية التي تفصل بينهما أقل من شهر؛ واحدٌ انعقد في غزة، والآخر في استانبول.. وشارك في كلا المؤتمرين قيادات دينية وسياسية إسلامية ومسيحية، وقد عبرت - بصراحة ووضوح - عما تتطلع إليه من رغبة حقيقية في بناء علاقة أخوية يشعر فيها الجميع أنهم أبناء وطن واحد، وليس بما كان سائداً فيما مضى من واقع كان له – حينئذ - ما يبرره، فالمصطلحات كانت لها – آنذاك - أوزانها الأخلاقية والمجتمعية والدينية، كالأقليات وأهل الذمة. أما اليوم، وفي ظل الدولة المدنية، فإن مفردات مثل المواطنة والعيش المشترك والبيعة على الموت من أجل الوطن الواحد، هي الأكثر تعبيراً ومصداقية لما يجمعنا، ويوطد بقوة لوشائج القربى بيننا.
لقد شاركتُ في مؤتمر "الصحوة العربية والسلام في الشرق الأوسط: وجهات نظر إسلامية ومسيحية" في استانبول بتاريخ 7-8 سبتمبر 2012م، وكان حجم الحضور على مستوى القيادات الدينية كبيراً، وقد أظهر الإخوة المسيحيون تخوفاتهم، وعبروا بصوت مسموع عن هواجسهم بعد الربيع العربي، ولكنهم وجدوا في تطمينات القيادات الإسلامية – آنذاك - ما أراحهم؛ حيث أظهر هؤلاء أن مبادئ العيش المشترك القائم على احترام الآخر، والمساواة في الحقوق والواجبات، هي التي سوف تسود علاقات أبناء الوطن الواحد، وأن دولة ما بعد الربيع العربي هي دولة مدنية يتساوى فيها الجميع أمام القانون، وأن المواطنة هي القاسم المشترك والمعيار للحكم على الأشياء؛ باعتبار أن المسيحيين في أوطاننا هم جزءٌ أصيل من هويتنا العربية، وليس أقلية مضطهدة تبحث عن حقوق لها.
ولعل التطمينات التي خرجنا بها في ملتقانا في غزة في "إعلان الوفاق والاتفاق" هي حجر الزاوية لأي تفاهمات يمكن أن تضبط العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، ليس في فلسطين وحدها؛ بل في كل أرجاء الوطن العربي الكبير.
فلسطين: الأرض والهوية الدينية والنضالية
تاريخياً، تعايش العرب - المسلمون والمسيحيون - على أرض فلسطين التي كانت مهداً للرسالات السماوية الثلاث؛ اليهودية والمسيحية والإسلام على مدار آلاف السنين، وكانت تسود علاقاتهم - في معظم تلك الفترات- أجواء التفاهم والتسامح والمحبة والمساواة، وكانت المواطنة هي الناظم لشكل الحقوق، التي يتمتع بها كلٌّ منهم، وواجباته تجاه الوطن.
بالطبع، وفي ظل واقع احتلالي بغيض، فإن المكر السيء للصهاينة سيعمل – دائماً - على تأليب بعضنا على البعض الآخر، وذلك بهدف خلق فتنة بيننا تُستنزف فيها طاقاتنا جميعاً، ويجرنا – بخبث - إلى ساحات التحامل والعداء والكراهية.. فبدل أن تتوحد جهودنا على مواجهة ذلك المحتل الغاصب، سوف ينشغل كلٌّ منا بالتجييش والإعداد للدخول في معارك جانبية لإضعاف الآخر وسلب مقامه ومواقفه، والمستفيد - طبعاً - من وراء كل تلك المعارك المفتعلة والدماء المهدورة هو الاحتلال نفسه.
لقد تعلمنا من دروس التاريخ أننا بالحوار سوف نقطع نصف الطريق على كيد المحتل ومكره، وبالتسامح وبالتصافي وتقدم كل منّا بخطوة حانية وصادقة تجاه الآخر سوف نحقق الوصول – بنجاح - إلى نهاية الطريق، وبلوغ الغاية التي نرجوها في إقامة مجتمع تسوده المحبة، وتربط بين أهله قواعد العيش المشترك، وخاصة بيننا وبين إخواننا المسيحيين، الذين تنشأنا - مجتمعياً - معهم على ثقافة "إن لهم في هذا الوطن ما لنا، وعليهم ما علينا".
في ديسمبر 2012م، كان هناك لقاءٌ رعته "هيئة الوفاق الفلسطيني" بين بعض القيادات الإسلامية والمسيحية، وذلك على خلفية بعض الجدل والخلاف الذي أخذ طريقه لوسائل الإعلام، وترك انطباعات بأن هناك حملة استهداف تطال إخواننا المسيحيين، وإن بعض عناوين تلك الحملة كان هو اعتناق بعض المسيحيين في غزة للدين الإسلامي.
استدعى ذلك اللغط الإعلامي الشعور بضرورة التحرك وسرعة العمل لتطويق الخلاف وسوء الفهم والتضليل، والذي حاول البعض أن يعزف على أوتاره المتهتكة لتوليف لحنٍ يشحن قلوب أبناء الوطن الواحد بعضهم على بعض، وفتح جبهة من الصراع تجعل بأسهم بينهم شديد.
لقد كانت "هيئة الوفاق الفلسطيني" موفقة في اختياراتها للمشاركين في الحوار من القوى والفعاليات الدينية والسياسية، والتي جعلت لهذا اللقاء ثمرة تمثلت في الإعلان الختامي الذي صدر عن المؤتمر، والذي تضمن بنوداً إذا احترمها الجميع كانت ناظماً لعلاقات مستقبلية، تنتهي معها الحساسيات الدينية لصالح الأبعاد الإنسانية والثقافية، والتي تجمعنا - منذ آلاف السنين - تحت سقف واحد اسمه الوطن، بكل ما فيه من أشكال المعاناة المختلفة، بسبب الاحتلال وسياساته التعسفية التي لا تفرق في قمعيتها بين أبناء الوطن الواحد.
لقد أعجبتني كلمات لسماحة السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله)، والتي وردت في كتاب تحت عنوان "في آفاق الحوار الإسلامي - المسيحي"، حيث تلقفت منها بعض الاقتباسات التي تتناغم مع ما ندعو إليه، والتأكيد على أننا في رؤيتنا نخرج من مشكاة واحدة، لا ترى في ظل ضيائها أي مساحة لتخريب فضاء العلاقة الإنسانية والوطنية والثقافية بين المسلمين والمسيحيين داخل كيانية الوطن الواحد.
يقول رحمه الله: "نحن نعلم أن الوضوح في فهم الآخر هو الذي يساهم في تقريب الأفكار وتوازن الأحكام, وانفتاح الإنسان على الإنسان، والموقف على الموقف، والموقع على الموقع.. وإذا كانت العصبيّة التاريخيّة المتحجّرة قد خلقت لدى المسلمين والنصارى حالةً من التشنّج والخوف والشكّ والحذر ونحو ذلك, بالمستوى الذي ابتعد فيه إحداهما عن الآخر، وتحوّل إلى فريق يحرَّك كل إمكاناته في حماية نفسه وساحته وأتباعه منه, فإن ذلك لم يحقّق لأيٍّ منهما نتيجة حاسمة على مستوى الهدف الذي يستهدفانه من الانفصال الفكري بينهما, بل ساهم في إيجاد هوّة سحيقةٍ أبعدت كلّ واحد منهما عن الفهم الحقيقي للآخر، وعن الوقوف معه على قاعدة "الكلمة السواء"، التي تتيح لهما - في المسألة الفكرية - اختصار الجهد المبذول في مناقشة الآخر فيما قد يلتقي فيه معه".
ويضيف سماحة السيد فضل الله (رحمه الله) قائلاً: "إذا كان البعض يخاف من دخول الآخر إلى ساحته في عمليّة تبشير أو دعوة في الأسلوب الفكريّ الذي يثيره في ساحة الحوار، فإنّ ذلك لن يكون أمراً سلبياً على صعيد الهدف الذي يستهدفه في تقريب الناس إليه من خلال الفكر الحواريّ, كما أن البُعد عن هذه الساحة لا يحقّق الحماية الذاتيّة المطلوبة لهذا أو ذاك؛ لأنَّ التطوّرات الفكريّة في قضايا الدين وغيره لا بدَّ أن تترك تأثيرها على كل المواقع، بعيداً عن كل وسائل الحماية الذاتيّة في هذا الموقع أو ذاك.. وقد يجد كل فريق نفسه في فرصةٍ ذهبية لإقناع الفريق الآخر بما يريد إيصاله إليه في تقريبه إلى فكره، كخطوةٍ أولى لإدخاله فيه بعد عملية الانتماء.. ونحن نتصوّر أن التطوّر الفكريّ في الواقع المعاصر, والانفتاح الإنساني على كل القضايا الفكريّة المعقدّة والروح الموضوعيّة التي أصبحت تعيش في داخل الذهنيّة الثقافيّة المُعاصرة في الفكر والأسلوب والآفاق الجديدة التي انفتحت عليها كل المواقع الدينيّة والفكريّة في شمولية النظرة إلى الأمور المختلَف عليها".
ويوضح بالقول: "إنّ ذلك كلّه يتيح الفرصة للدخول في حوار يتمحور حول الهدف الإنساني الكبير في الوصول إلى وحدة التصوّر الديني في المفاهيم العامة أو اللقاء الذي يهيئ الأجواء للحصول على نتائج وحدويةٍ حاسمة.. وقد نلاحظ أنّ هناك أكثر من قضية مشتركة يلتقي فيها المسلمون والمسيحيون في كل الساحات, وهي "الكلمة السواء" في التوحيد ورفض الشرك ووحدة الإنسانية ورفض الاستكبار والاستعباد الإنساني, وهو الذي طرحه القران الكريم على أهل الكتاب في قوله تعالي: (قُلْ يَا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ...) فيتحرَّك الجميع لمواجهة المادية الملحدة, والشرك العبادي والاستكبار العالمي, لينطلق الإيمان بالدين بشكل عام قوياً في ساحة الفكر, ويتحرَّك المستضعفون في مواقع القوة في مواجهة المستكبرين, الأمر الذي قد يتيح للشعوب المستضعفة أن تكتشف في الدين الحركي معنى الحرية والعدالة, فتلتقي بالإيمان به من خلال جهاده السياسي في خط المواجهة للظلم العالمي كله, ليقف المسلم ضد المستكبر حتى لو كان مسلماً, ويقف المسيحي ضده حتى لو كان مسيحياً, فذلك هو الذي يمثّل اختصار المسافة الطويلة للوصول إلى عقل المستضعف, لأنّ الكثيرين من الناس يفهمون الإيمان من خلال المشكلة التي يتخبطون فيها أكثر مما يفهمونه من خلال المفردات اللاهوتية التي يفكَّرون فيها, لأن اقرب طريق إلى عقل الإنسان قلبُه, كما أن أقرب الطرق إلى القلب قضاياه وحاجاته الطبيعة الملحة في الحياة".
ويختم سماحته بالقول: "إن الحوار في المسألة السياسية لا يقل أهمية عن الحوار في المسألة العقدية والثقافية، فقد نلاحظ أن اللعبة السياسية الدولية تارة, والإقليمية أخرى, والمحلية ثالثة, تخطط لإثارة الصراع المسيحي الإسلامي في هذا البلد أو ذاك أو في هذه الدائرة أو تلك, من خلال بعض المفردات التي قد تكون ناشئة من أوضاع شخصية أو مادية أو قبلية, أو بعض الأوضاع السياسية, التي لا تتصل بالمسيحية والإسلام في صفتهما الدينية, بل تتصل بالانتماءات السياسية الدولية أو الإقليمية، التي يخضع لها هذا الجانب المسيحي أو الإسلامي في علاقاته العامة والخاصة, من خلال خط سياسي أو مخابراتي أو اقتصادي أو أمني وغير ذلك.. أو بعض الحروب الداخلية التي تتحرك من خلفيات الأجهزة المخابراتية في استغلالها لبعض الحساسيات الطائفية في دائرة الواقع المعقد الحساس الذي قد تزيده تعقيداً وحساسية بفعل بعض التحركات الداخلية أو الخارجية المطلة على الخلافات التاريخية التقليدية, وذلك بالإيحاء بالخوف المتبادل الذي توزعه على الأطراف جميعاً بطريقة ذكية خفية لا ينتبه إليها الذين يكتوون – أخيراً – بنارها".
كما أعجبتني تلك الكلمات للأخ خالد مشعل؛ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، حيث أشار إلى طبيعة العلاقة مع إخواننا المسيحيين بالقول: "نحن نتعامل مع الإخوة المسيحيين كمكون أساسي من مكونات الشعب والوطن"، وكجزء فاعل في معركة النضال ضد الاحتلال، بعيداً عن حسابات أن هذا مسلم وهذا مسيحي.. نحن شركاء في الوطن، والجميع له حقوق وعليه واجبات، وعندما نذكر رجالات الدين المتميزين في النضال من أبناء فلسطين نذكر - على سبيل المثال – على المستوى الإسلامي: الشيخ رائد صلاح والشيخ عكرمة صبري وعلى المستوى المسيحي: المطران عطا الله حنّا، والمطران كبوتشي والأب مانويل مسلم.. حيث يشتركون جميعاً في الدفاع عن القدس وقضيانا الوطنية والدينية.
وقبل هذا وذلك، هناك شعارات وممارسات الرئيس الشهيد ياسر عرفات (رحمه الله)، الذي كان يؤكد في كل خطاباته ولقاءاته على الوحدة الوطنية بين الفلسطينيين؛ مسلمين ومسيحيين، ويشدد على قدسية بلادنا كمسرى لسيدنا محمد –عليه الصلاة والسلام- ومعراجه، ومهد سيدنا المسيح (عليه السلام)، ويشارك المواطنين المسيحيين أفراحهم وأتراحهم ومناسباتهم الدينية بطوائفهم المختلفة، حتى أن البعض يعتبر أن فترة قيادته – رحمه الله – كانت تمثل العصر الزاهي للأُخوّة الإسلامية المسيحية.
وثيقة عهد للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين
قبل عامين، وفي المؤتمر الذي عقدته "هيئة الوفاق الفلسطيني" في قطاع غزة كمبادرة وطنية دينية، توصلنا إلى صياغة "وثيقة عهد"، اعتبرناها امتداداً وضابط إيقاع للمسيرة الطيبة في علاقاتنا الإسلامية المسيحية، ومحاولة صادقة لترتيب بيتنا الفلسطيني، واستجابة لإرادة شعبنا الحريصة على "الوفاق الديني" بين جميع مواطنينا.
إن الكل الإسلامي الإسلامي – المسيحي على أرض فلسطين قد تراضى على أن تكون المبادئ التي صغناها في ذلك المؤتمر هي أرضية للتعامل بيننا، والقاسم المشترك في علاقاتنا الدينية والإنسانية كأبناء وطن واحد؛ تجمعنا هويتنا النضالية وتعايشنا الوطني ونظرتنا التسامحية التي تحكمها ضوابط المواطنة وأحكامها.. وقد خرج اللقاء الذي اجتمعت فيه كل العناوين الدينية؛ الإسلامية والمسيحية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بالنقاط التفاهمية التالية:
أولاً- الشعب الفلسطيني؛ بمسلميه ومسيحييه وحدة واحدة، وأن الوجود المسيحي في فلسطين هو جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني الفلسطيني، ملتزم بقوميته ووطنه وشعبه ولغته العربية وتاريخه.
ثانياً- احترام كل طرف لديانة الآخر دون إكراه في الدين، وفقاً لنصوص القرآن الكريم والإنجيل المقدس، وأن الحوار - والحوار وحده - عنوان معالجة أي تباين واختلاف، ونبذ أي خطابات منافية لذلك.
ثالثاً- العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين علاقة راسخة، قائمة على المواطنة والتسامح والتنوع والعيش المشترك، ونريدها نموذجاً يحتذى للشعوب ولأبناء الأديان في العالم بأسره.
رابعاً- ندعو جميع المسؤولين عن إرشاد الناس، سيما الوعاظ في المساجد والكنائس والمربين في المدارس، ليعملوا على تعميم هذه الروح، وتنمية الأخوة بين جميع المواطنين.
خامساً- الاحتلال الصهيوني الجاثم على الأرض المقدسة هو الخطر الوحيد على الوحدة الإسلامية المسيحية، ويشكل التحدي الحقيقي لها، وأن أبناء الشعب الفلسطيني مسلمين ومسيحيين يداً واحدة في مواجهة هذا الاحتلال، حتى تحرير الوطن والقدس والمقدسات، وتقرير المصير والاستقلال.
سادساً- رفض كافة أشكال التدخل الخارجي في الشأن الداخلي الفلسطيني، وأن شعبنا قادر بحكمة أبنائه ومسئولياتهم الوطنية على تجاوز أي سوء فهم عابر بين أبناء الوطن الواحد.
سابعاً- أهمية تشكيل لجنة متابعة دائمة اسلامية – مسيحية لتحصين العلاقات الوطنية المشتركة وتقنينها، وصونها من أي أخطار داخلية أو خارجية قد تحيق بها.
ثامناً- دعوة العالم للاعتراف بدولة فلسطين، وحق العودة للآجئين والمبعدين، وفك الحصار الظالم عن غزة، وحماية شعبنا وتحرير الأسرى وإنهاء الاحتلال.
إن هذه الورقة التي خرج بها اللقاء الإسلامي المسيحي في قطاع غزة، بتاريخ 27 أغسطس 2012م، هي بمثابة تأكيد وتجديد لوثيقة العهد العمرية، والتي تعتبر ميثاق شرف للعلاقة السوية بين المسلمين والمسيحيين عبر التاريخ.
ونحن في مطلع عام جديد، حيث تشهد بلادنا احتفالات أعياد الميلاد المجيد ورأس السنة الجديدة، أحببنا استدعاء تلك القيم الأخلاقية والدينية والإنسانية، والتي تربط علاقاتنا - كمسلمين ومسيحيين - عبر تاريخنا الحضاري الممتد لآلاف السنين على أرض فلسطين.
وختاماً؛ لإخواننا المسيحيين على أرض غزة وفلسطين، نقول: عيد ميلاد مجيد، وكل عام وأنتم بخير.
كما أننا ندعو الجميع – مسلمين ومسيحيين – التوافق في العمل على قاعدة "الكلمة السواء"، التي تجمعنا ولا تفرقنا، وتحفظ وحدة صفنا، وتجعلنا – دائماً - يداً على من عادانا، ليبقى سلاحنا مسدداً في وجه هذا العدو المحتل لأرضنا ومقدساتنا.


