لم يكن من باب التسلية أن ردد الحكماء والفلاسفة عبر العصور مقولة أن "الجوع كافر"، قيلت بأشكال وعبارات بكل لغات العالم المختلفة، لم تنحصر في فلسفة أو دين معين، فكلها توقفت أمام ظاهرة الصراع الطبقي وما ينتجه من تفاوت في مستوى المعيشة، وآثاره الاجتماعية المدمرة، ومظاهر الجوع والفقر والتشريد التي هي سمة ملازمة لذلك الصراع، ولقد توقف الخليفة عمر بن الخطاب أمام تلك الظاهرة بقول يتردد منذ مئات السنين، "لو كان الفقر رجلا لقتلته"، للدلالة عما يختزنه جوع الانسان من قهر وكارثة إنسانية..
لكن العبارة التي أطلقها الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري، والذي هجر مجتمع النفاق والكذب في حينه ليعيش اخر ايامه وحيدا، ذلك "الاشتراكي" الأول قالها صرخة مدوية، لا تموت ما دام للفقر مكان في عالمنا: "عجبت لمن لا يجد قوت يومه، كيف لايخرج شاهرا سيفه"، في كناية غاية في الدقة أن الكل الفقير يجب أن يناضل لازالة مسببات الفقر ولارساء أسس العدالة الاجتماعية..
مسألة الفقر والقهر تبرز مع تبلور أزمة موظفي حماس في قطاع غزة، والتي بدأت تتطور الى ظاهرة إجتماعية خطيرة، ستنتج فيما تنتج باستمرارها كل مظاهر الجريمة الفردية والمنظمة، ما لم تجد لها حلا سريعا، ولذا ما يحدث في القطاع من أفعال تبدو غالبيتها "جريمة منظمة" حسب كل الشواهد، يقف خلفها فئة تحاول استغلال "أزمة الجوع" لنشر "الجريمة السياسية المنظمة"..
نعم..لا يمكن لعاقل وطني أو شبه وطني، إنسان أم شبيهه يمكنه أن يقبل استمرار أزمة تجويع عشرات آلاف موظفين بأسرهم وأطفالهم، دون ذنب سوى أنهم ينتمون لحركة حماس وأجهزتها الأمنية، هي جريمة كاملة الأركان، لا يختلف عليها أي من بني البشر، واستمرارها بلا حل لن يكون حلا للجريمة المنظمة المتنامية، والإختباء وراء أزمة مالية فقط ليس حلا ولا ذريعة، بل يستوجب التفكير المشترك والجمعي لبحث تلك المأساة الانسانية بكل أبعادها، ولا نظن أن العقل الفلسطيني سيقف عاجزا عند ايجاد البديل للقهر الاجتماعي - الانساني لعشرات آلاف موظفين يصلون مئات آلاف مع اسرهم..
ولكن هل الحق في محاربة الفقر والكارثة الانسانية، يسمح القيام باستغلال تلك الكارثة لتنفيذ أجندات تبتعد بالحق لتضعه في مصاف الجريمة، بل والارهاب أيضا، فالتفجيرات ضد البنوك أو ارسال رسائل تهديد الى اصحاب البنوك وموظفيها في حال استمرار العمل وأداء واجبهم لخدمة ما يفوق المليون ونصف مليون فلسطيني، ليس سوى الانتقال من الحق الى الجريمة..
لا يمكن تبرير الجريمة الارهابية مهما كانت دوافعها، فالحق لا يستبدل بفعل ارهابي، والا لأصبح كل "فقراء العالم" وعددهم بالمليارات أعضاء في منظمات ارهابية، بل أن الفقر في فلسطين منذ أزل، يتزايد ولا ينقص، ومع ذلك لم نسمع يوما أن وجد غطاء الفقر أو القهر مسلكا للفعل الارهابي..
من حق كل موظف، بل من حق كل أبناء شعب فلسطين التضامن الوطني والطبقي مع موظفي حماس ضد الجريمة التي يتعرضون لها، ويقاتلون بكل قوة مسببها، وهنا يجب أن نفتح قوسا كبيرا لمعرفة المتسبب، بأنه ليس الحكم والحكومة فقط، بل أن حركة حماس وقيادتها تتحمل جزءا هاما من مسؤولية الكارثة الانسانية لهؤلاء الباحثين عن حق اقتصادي - اجتماعي..
حماس قبل السلطة مسؤولة عما حدث، فهي من البداية لم تضع آلية واضحة لحل تلك المعضلة، وهي تعلم يقينا أن هذا الكم من التوظيف الحزبي - الفئوي لن يكون عملا مرحبا به، لكنها لم تقم وزنا لنتائج ما سيكون عند ساعة "المصالحة"، وكأنها خططت لابقاء الأزمة الوطنية الى أمد الدهر، او تبقى هي صاحبة الحكم والحكومة، وهو ما لم يحدث، بل أن الانقسام بعد الانقلاب كان وبالا عليها، ومن ورطها في مسار الانقلاب أدار لها ظهره الآن، وكأنه ينتقم منها بطرق مستحدثة..
قبل البحث عن مسؤولية السلطة، حكما وحكومة، يجب أن تتوقف حماس وبعض أجهزتها عن استخدام المقهورين كأداة ارهاب وإبتزاز، وأن تفكر هي قبل غيرها بحل عبر الشراكة الوطنية وليس بالابتزاز الوطني، أن تتجه للكل الوطني الحاضن للبحث سويا، وبالتأكيد فإن الحل يتطلب مراجعة شاملة لسياسة حماس الداخلية والخارجية..
البوابة الأولى أن تفكر بثقافة "الشريك السياسي" وليس "سي السيد السياسي"، وأن التطورات منذ الانقلاب الأسود في يونيو 2007 لم تكن مسارا سياسيا سليما، وعليها أن تستخلص كل العبر الواجبة للعودة الى التوحد بالصف الوطني، ومنها إدراك أن العلاقة مع مصر هي مفتاح لا يمكن استبداله بأي بلد أو جهة مهما كان اسمها، أو نظامها، غنية أو فقيرة، فمصر كانت وستبقى أزلا، مفتاحا لا فكاك منه لفلسطين عامة ولقطاع غزة خاصة، ولذا فعلى قيادة حماس أن تعيد التفكير بشكل جذري في موقفها من مصر الثورة، وأن تضع مصلحة الوطن فوق مصلحة الجماعة وأن تصدق القول أنها حركة تحرر وطني وليس فصيلا اخوانيا..
حماس يجب أن تعلن انحيازها الفوري للثورة المصرية ورئيسها عبدالفتاح السيسي، وأن تنهي كل رابط مع تلك الجماعة "المشؤومة"، وأن تقف لتفكر بالطريقة التونسية، وتستخلص عبر من حركة لا تواجه أزمات حماس، لا الوطنية ولا المالية، فالنهضة التونسية قررت أن تكون حركة تونسية فقط، تخلت عن كثير مما رفعته شعارات تحت ضغط الواقع الجديد، قبلت التعامل مع الحكومة التي يرأسها مسؤولا أمنيا من نظام بن علي، ولتبرير فعلتها بحثت عن كل مبررات ذلك، وصنفته كرجل شريف غير فاسد وطني جمعي..اي صفة يمكنها أن تسمح لها بـ"تنظيف موقفها" للبقاء والشراكة..
حماس يجب أن تعيد التفكير كليا في سلوكها ومسارها وخياراتها لكي تبدأ رحلة "الشراكة الوطنية" تأخذ مسارها، كونها البوابة الوحيدة لحل أزمة القهر والتجويع التي يتعرض لها مئات آلاف من موظفين بلا ذنب، سوى قصر نظر قياداتهم واستهتار من قبل حكومة لاتستحق لقبها المتداول بأنها "حكومة توافق"، فلا يوجد بها من التوافق شيئا..
حماس قبل السلطة عليها البحث عن حل لأزمة لا يمكنها أن تحل بالجريمة المنظمة..بل أن ذلك سيزيد من عبئ الكارثة ويوسع من قاعدتها الاجتماعية..وعندها يصبح كل أهل القطاع في دائرة الكارثة..فهل تبحث حماس عن ذلك!


