كما كان متوقعاً فشل مشروع القرار الفلسطيني في نيل الأغلبية اللازمة لتمريره في مجلس الأمن، القرار الهادف لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67، حاز فقط ثمانية أصوات من أصل 15، وليس تسعة كما هو مطلوب في الحد الأدنى، ما جنب الولايات المتحدة استخدام حق الفيتو مرة جديدة دفاعاً عن إسرائيل، وضد الحقوق الفلسطينية المشروعة.
فشل التصويت طرح علامات استفهام كبرى، ليس فقط حول الخطوة أو الخطوات اللاحقة، وإنما أيضاً فيما يتعلق بأسباب الاستعجال، وعدم تأجيل التصويت ليومين فقط، وانتظار تغيير تركيبة مجلس الأمن ودخول أصوات مؤيدة ومضمونة للقرار مثل فنزويلا وماليزيا على سبيل المثال.
قبل الإجابة على أو محاولة فهم علامات الاستفهام السابقة لا بد من الإشارة إلى أن مشروع القرار الفلسطيني عانى من الاستعجال والتخبط والعشوائية منذ ولادته القيصيرية، حتى فشله في مجلس الأمن فلم يناقش المشروع بشكل مؤسساتي منفتح وشفاف، لا على الصعيد السياسي الفلسطيني العام، ولا حتى على الصعيد التنظيمي القيادي المتمثّل بمنظمة التحرير، أو لجنتها التنفيذية على علاّتها وعدم تعبيرها عن المزاج الشعبي الفلسطيني أو عن الواقع السياسي الحالي بشكل عام، وقد صيغ القرار في حلقة ضيقة ضمت الرئيس عباس وبعض مساعديه ووضعت في البداية صيغة معقولة راعت المواقف أو الثوابت الفلسطينية الثلاث، ولو بحدودها الدنيا؛ مقصود طبعاً اللاجئين الحدود والقدس والقضايا المتفرعة عنها، مثل الاستيطان الأسرى، إضافة إلى الجدول الزمني الخاص بإنهاء الاحتلال بعد عامين من الآن، أي نهاية العام 2016، ثم فجأة، وبشكل مستتر وخفي تم تقديم القرار بشكل رسمي، ولكن بعد إدخال ثمان تعديلات عليه أفرغته من محتواه، خاصة فيما يتعلق بالقدس التي تحولت إلى عاصمة مشتركة للدولتين مع الجدول الزمني وحديث عام ضبابي وغامض عن الاستيطان وإشارة مريبة إلى القرار 181 أو قرار التقسيم بغرض الإشارة ولو بشكل ضمني إلى فكرة أو مصطلح الدولة اليهودية.
التعديلات الثمانية وضعت بهدف نيل رضى ومباركة الولايات المتحدة والدول الأوروبية للمشروع، وأشارت مصادر ديبلوماسية لموقع أمد - مقرب من النائب والقيادي الفتحاوي السابق محمد دحلان - أنها صيغت بشكل مشترك بين المفاوض الفلسطيني صائب عريقات والمفاوض الأمريكي السابق المقرّب من أروقة الإدارة في واشنطن مارتن أنديك، الذي زعم أنه قادر على تسويق صيغة مخففة للمشروع لدى الخارجية والبيت الأبيض، غير أن ردود الفعل الفلسطينية الغاضبة والرافضة للتعديلات والقرار المخفف – اللايت - وإعلان واشنطن رسمياً عن عدم قبولها به ورفض تحديد أي جدول أو سقف زمني للمفاوضات أو لإنهاء الاحتلال، أديا إلى تعديل القرار المخفف مرة أخرى والعودة إلى النسخة الأصلية ما أفقده الزخم المطلوب الحماسة، وحتى الهيبة المعنوية المطلوبة لقرار يفترض أنه مصيري للقضية الفلسطينية.
وفي الأسبوع الأخير من العام الماضي تم تقديم النسخة المعدلة رسمياً لمجلس الأمن، ثم طلب التصويت بعد أيام قليلة مع أن الأغلبية اللازمة لتمريره لم تكن مؤمنة أو مضمونة بشكل كامل، رغم إعلان السلطة أنها أمنت الأصوات التسعة المطلوبة لذلك في ذلك نيجيريا التي غيرت رأيها وامتنعت عن التصويت في اللحظات الأخيرة، علماً أن الانتظار ليومين فقط أي إلى حين تغيير تركيبة مجلس الأمن ودخول دول مؤيدة تاريخياً وتقليدياً للقضية الفلسطينية مثل ماليزيا وفنزويلا، كان سيجعل التسعة أصوات مضمونة بالمائة بالمائة دون أي مجازفة أو المراهنة على دول قابلة للانحناء أمام الضغوط والإغراءات الأمريكية والإسرائيلية.
عموماً نال القرار ثمانية أصوات من أصل 15 في مجلس الأمن بينها ثلاثة دائمة العضوية وامتنعت 5 بينها بريطانيا، وهي دولة دائمة العضوية في المجلس ونيجيريا ورواندا، وهي دول مؤيدة في العادة للقضية الفلسطينية، وصوّتت كما كان متوقعاً أمريكا واستراليا فقط ضد القرار. ولكن دون اضطرار الأولى إلى إحراج أو عبء الفيتو بعدما لم ينل القرار الأصوات التسعة اللازمة لمروره رسمياً حسب لوائح الأمم المتحدة.
التصويت لم يكن مفاجئاً لأحد غير أن اللافت كان التأييد الفرنسي، وهو منسجم مع المزاج الشعبي والسياسي الفرنسي، والامتناع البريطاني، وهو أيضاً منسجم ولكن بدرجة أقل مع الرأي العام البريطاني، ولم يكن بإمكان حكومة كاميرون التصويت ضد قرار ينص على إقامة دولة فلسطينية بعدما تبنى البرلمان البريطاني نفسه قرار مشابه.
تصويت أمريكا واستراليا ينسجم مع المواقف المعلنة للدولتين غير أن المفأجاة – النسبية - تمثلت بلا شك في امتناع نيجيريا ورواندا عن التصويت، علماً أن الدول الإفريقية اعتادت الاصطفاف إلى جانب الكتلة العربية - دول عدم الانحياز - وبالتأكيد نحن أمام تحول قد يكون تاريخي في إفريقيا في ظل الغياب العربي التام عنها وتركها فريسة للمطامع والإغراءات الأمريكية الإسرائيلية على اختلاف أشكالها وألوانها.
يمكن الزعم أن الرئيس محمود عباس أراد العملية نفسها أي التصويت بغض النظر عن نتائجها في ظل اقتناعه التام بفشل القرار، سواء بعدم حصوله على الأغلبية المطلوبة أو بالفيتو الأمريكي، وفي كل الأحوال فهو استثمر القصة برمتها في السياق الفلسطيني الداخلي، وفي مواجهة خصومه الكثر داخل فتح وخارجها للقول أنه لا يفرّط في الحقوق الفلسطينية، وأنه لا يخضع للضغوط، وأنه مصر على المضي في الطريق حتى نهايته بما في ذلك الوصول إلى محكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
لا بد من الانتباه إلى أن قصة المشروع من الألف إلى الياء بمضامينها وإثارتها السياسية الإعلامية حجبت الانتباه عن فشل الخيار المركزي للرئيس محمود عباس والمتمثل بالتفاوض، ثم التفاوض والذهاب إلى مجلس الأمن يمثل اعتراف وإقرار رسمي بفشل لهذا الخيار، ولكن دون دفع الثمن الديموقراطي والمؤسساتي اللازم، والتنقل و الهروب من خيار إلى آخر دون توقف ودون استعداد للمراجعة أو تحمل الثمن الشخصي والسياسي.
رد الفعل الفلسطيني الرسمي على الفشل المسعى جاء متوقعاً ومقرراً مسبقاً مع توقيع الرئيس عباس على مواثيق الانضمام إلى 20 منظمة ومؤسسة دولية، بما في ذلك طبعاً ميثاق روما والمحكمة الجنائية الدولية، غير أن هذا يبقى نظرياً إلى حين الانضمام الفعلي بعد شهرين، ومن ثم التفكير الجدي في تقديم شكوى رسمية ضد إسرائيل على جرائمها بحق الشعب الفلسطيني من الاحتلال نفسه والاستيطان إلى حرب غزة الأخيرة. وهي السيرورة التي قد تستغرق سنوات ولكنها ستضع ضغط سياسي وقضائي كبير على الدولة العبرية وحلفائها أو حليفتها الوحيدة المتبقية أمريكا.
يفترض أن تكون الخيارات البديلة للتفاوض وحتى للفشل في مجلس الأمن نتاج لتوافق أو نقاش وطني جدي ديموقراطي شفاف نزيه ومفتوح، خاصة أن سيرورة الذهاب إلى لاهاي ستستغرق سنوات، وحتى لو تم الحصول على قرار من مجلس الأمن لإنهاء الاحتلال، فإن لإسرائيل تاريخ طويل من التنكّر والاستخفاف بالأمم المتحدة وقراراتها. ومن هنا لا فائدة أو جدوى من أي تحركات سياسية وديبلوماسية طالما بقيت الحالة السياسية الفلسطينية على حالاتها من الانقسام الترهل والانغلاق، وبدون مصالحة ديموقراطية حقيقية وجدية حزبية ووطنية لا يمكن تحقيق أي نجاحات ملموسة وبدونها لا يمكن قطعاً استثمار أو الاستفادة من التضحيات الهائلة والأثمان الباهظة التي قدمها ويقدمها الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات.
• كاتب فلسطيني – رئيس تحرير نشرة المشهد التركي


