لأن الذين يتسلمون مواقع تمكّنهم من التصرف في القضايا الثقافية في بلادنا، لا تربطهم بالثقافة صلات حقيقية، فبعضهم لم يقرأ كتابا واحدا في حياته، ومع ذلك يدير مؤسسة ثقافية يفترض أن تكون لها أهميتها، فيحيلها إلى ما يشبه مؤسسة للعلاقات الشخصية، أو يحيلها إلى ما يشبه الاستيداع، في أفضل الحالات، حتى تنسى تماما، وتبقى له وحده، فإنه من الصعب أن تكون الثقافة على أيديهم في الطريق الصحيح.
استطاع هذا النمط من المدراء العامين، والأمناء العامين، ومن معهم وفوقهم في المسؤولية المتاحة، أن يرسي تقاليد خاصة، في هذا الوطن الذي يدافع عن ثقافته ضد احتلال لا يؤمن إلا بمحوها، وبسبب المنعة والإصرار، والحماية المتوفرة لأسباب متنوعة، تكرّست هذه التقاليد بعيدة عن الثقافة، لأنها مفصلة على قياسهم، وبقدر بعدهم عنها.
في هذا الشأن، وحين يتسلم أحدهم موضوعا فيه احتمالات للاختيار، فإنه لا يلتفت إلى ما تتطلبه المناسبة من تخصصات أو قدرات، ولا إلى ما يستلزمه تمثيل فلسطين المحتلة جدا من أدوار، بقدر ما يلتفت إلى ما يخصه: كيف يمكنه، في هذه الفرصة، أن يفيد كي يستفيد؟ لذلك يسهل التنبؤ بالقائمة التي يرتئيها، وهي قائمة تكون، في ورقتها الأولى التي يجري تمريرها بالخداع على الأقل، شبيهة برسم بياني شديد الوضوح، أو شجرة أنساب تبين لماذا اختير كل شخص، وإلى أي شخص آخر ينتسب، من بين أولئك الذين يرجى منهم ردّ المعروف؟ ثم يجري تصميم البرامج لتبرير وجود الأشخاص الذين يحظون بالرضا، بعكس ما يجب أن يكون. ومن الطريف أن هذه البرامج، التي يتأكد فشلها كل مرة، تبقى ثابتة أو تكاد، لأن الأشخاص الذين يوكل لهم إعدادها لا يتغيرون، ولا يغيرون ما في أنفسهم، ولأنهم أساسا لا يملكون ثقافة تساعدهم على الابتكار، ولو من داخل نواياهم المسبقة.
وتتلخص خيارات المناسبة الثقافية، حين يكون فيها سفر وبدلات، في ثلاثة أساسية، تتحقق من خلالها الأهداف الشخصية التي يضعها صاحب الفرصة المتاحة لنفسه: الخيار الأول يهدف إلى إرضاء المسؤول الأول عنه، بتلبية طلباته قبل أن يطلبها، لا في ما يخصه وحده، وإنما في إرضاء الأصدقاء والمجالسين والمقربين، وربما لاعبي النرد أيضا، ما يجعل المسؤول يغضّ الطرف عما يليه، فلا يفكر بأن يجد وقتا لقراءة المقترحات التي يوقع عليها، وإلا لتساءل عن أسماء (نساء ورجال) ما أنزل الله من سلطان بها، ولا بسبب اختيارها.
والخيار الثاني يكون بتقريب الأصدقاء الذين ينطبق عليهم ما يمكن أن نبتكر له مصطلح "المنافعة"، الذي يجب أن يشرح لهم لصعوبته عليهم، بالقول إن أحدهم يسجل على صاحبه معروفا لن ينكره، وسوف يرده له، ربما مضاعفا، حين تكون الفرصة في يده. والفرصة ستكون بالطبع، لأن هذه الأنماط تتبادل المواقع منذ سنوات، بقدر ما تتبادل المنافع. ومن الطريف أن هذا الخيار لا يقتصر على الأصدقاء، بل يتعداهم إلى أصدقاء الأصدقاء، وربما إلى صديقات "الفيسبوك" أو خلافه أيضا، لتظل الدائرة الضيقة ذاتها تتوزع ما تعتبره من المغانم.
ثم يأتي الخيار الثالث، الذي يعني إقصاء الآخرين، وهم غالبا ما يكونون أكثر كفاءة وملاءمة لموضوع المناسبة الثقافية. ويتم الإقصاء لأن خطَرَين يكمنان في وجود من يمكن أن يمثلوا فلسطين ثقافيا بما يليق بها: الأول والأهم هو أنهم بوجودهم يكشفون ضحالة من تزكيهم الصداقة أو المصلحة أو المنافع، والثاني هو أن وجودهم سوف يقلص من فرص الأحباب والأصدقاء في السفر ومنافع المهمات التي تكون مضمونة في فشلها. ومن أمثلة هذا الإقصاء: عدد الكاتبات والشاعرات الشابات أكثر من عدد الشباب في بلادنا، وإنتاجهن أفضل: فانظروا من يمثل الكاتبة/ الشاعرة الفلسطينية الشابة في مناسباتنا.
خريطة الطريق الثقافية هذه، صارت قاعدة عامة تصعب مقاومتها، لأن آليات الدفاع التي طورها أصحابها، وضعت إجابات تستطيع أن تقنع أي مسؤول بما تنوي فعله: فحين يسأل مثلا، في حدث نادر بالطبع، عن أسماء: سوف يقال له (كذبا) إن الأمر عرض عليها ولم توافق، أو تطرح أمامه أية حجة، أو عذر، وهو لا يملك الوقت، ولا الرغبة، ولا معرفة الواقع الثقافي، كي يستوضح، ما دام المقربون منه راضين عن المحصلة.
عرفت مسؤولا ثقافيا من هذا النمط، لا يكاد يخرج من موقع، باكيا أو مشهّرًا به، لأنه يستغل الموقع للفائدة الشخصية، حتى تتم الاستعانة به، في موقع أفضل، بانتظار تشهير جديد، لا يتأخر. جربته ذات مرة في ندوة شاء أن تقام في الخارج، وكانت في الخطة مقتصرة على عدد محدود من المشاركين، لكل واحد منهم مهمته. لكنه عند التنفيذ، ضاعف عددهم عدة مرات، بأن أضاف إليهم ـ حسب التقليد الذي بادر إلى إرسائه ـ عددا من الأصدقاء والصديقات، من الدرجة الأولى والثانية والثالثة، ليس لأي منهم علاقة، من قريب أو بعيد، بما يخص الندوة، ولم تكن لهم ولزوجاتهم وأبنائهم وبناتهم وصديقاتهم أية مهمة، سوى أن يتفسحوا، على حساب القضية.
ويبدو أن مضاعفة الأرقام محظوظة في بلادنا، وفي مناسباتنا الثقافية في الخارج. وحين تراجع القائمة الأولى التي تقترح لأية مناسبة من هذا النوع، (وقد اطلعت على قائمة لمناسبة قريبة لها أهميتها فيها اثنان وثمانون اسما، سجل عليها اقتراح بأن يختصر اثنان، دون تحديدهما. ولم يتساءل أحد عن عدد الذين شاركوا حين استضفنا من يستضيفون بلادنا، ولا عن نوعياتهم) فإن نظرة سريعة تستطيع أن تتلمس الدوافع غير الخفية في تشكيل الوفود، لأن هذه التقاليد الثقافية تنفذ بدقة، وكأن الذين يمارسونها تلقنوا دروسا معمقة في انتهاز الفرص، ما يعني أنه تمّ بالفعل تشكّل ثقافة انتهازية متينة في حياتنا، يتحرّك داخلها من يمارسها، بثقة عالية، وهو يغمض عينيه، بلامبالاة مطلقة، عن أي نقد يوجه إليه، أو أي شيء ينبهه إلى ما في سلوكه من عيوب، تسيء إلى فلسطين، بالإساءة إلى ثقافتها، عن طريق التمثيل عليها، أو التمثيل بها، لا تمثيلها الصحيح، لسبب بسيط، هو أنه يعرف ذلك كله، وينطلق منه، ولا يكون معنيا إلا بأن يحقق لنفسه خطة تخصه، ويكون، كلّ مرة، ومع الأسف الشديد، قادرا على أن ينجح.
هل يمكن لمثل هذه التقاليد أن تعزّز ثقافة فلسطينية مقاومة، تشكل الدرع الوحيدة التي لا تهزم للهوية الوطنية؟ وهل يمكن لمثل هذا السلوك أن يحظى باحترام حقيقيّ، من أية جهة تريد أن تحترمنا، بينما يقنعها سلوكنا بألا تفعل؟ وهل ينجح مثل هذا حين نستضاف في أماكن تستطيع أن تميز الزائف من الأصيل، في موضوع الثقافة والمثقفين.
في هذه الأيام، ونحن ننظر بحزن شديد إلى تحكم من ينتهكون حرمة ثقافتنا فيها، بالأفعال وبالأسماء، نتمنى أن تكون سنتها التي حلّت، خيرا من سنواتها الكثيرة التي رحلت، مع ثقتنا المؤكدة بأن ثقافتنا الأصيلة، لا الممتطاة، سوف تظلّ بخير.