خبر : لدينا ما نقوله ونفعله بدءاً من هذه الليلة في محاسبة إسرائيل ...حسين حجازي

السبت 03 يناير 2015 08:55 ص / بتوقيت القدس +2GMT



ليس بالأمس او حتى قبل ستة شهور، وليس غداً وحيث كل غد لناظره قريب، ولكن الآن بدءاً من هذه الليلة. يا لها من جملة بلاغية لها وقع السحر كأنها ترد على لسان أحد أبطال شكسبير، وقد ارتفعت بها ايها الرئيس، أمام شعبك وأمام العالم الى حد البطولة، وكنت في هذا الموقف وكأنك تتحدث بروح عرفات، فلا يهم في هذا الصراع التراجيديا الفلسطينية ما يقوله الآخرون، وإنما ما نقوله ونفعله. هكذا كان يقول عرفات، وسوف يذهب لغو من ظلوا ينتظرون إعلان موت سيد ايثاكا في الهواء.
ففي ميلادها الخمسين لا يفتحون غطاء قبرها ليكتشفوا انها لم تمت، ولكنها تبدو مرة أُخرى كما لو انها هي الخصم العنيد، تنهض من رماد السنين وترتدي حلة المحارب من جديد. هي الحرب إذن على ذات الطريق، خمسينية لا تشبه فتوتها الأولى او فتوة القساميين. ولكن اين هو الفارق بين خطاب رياض منصور في الامم المتحدة، وبيانات ابو عبيدة في ساحة الميدان؟ لا تحارب «فتح» الخمسينية بأدوات «حماس» العشرينية، ولكن كما لا يمكن للواحد منهما ان يقوم بعمل الآخر، فان ما يجب إدراكه هنا ان هذا التقسيم الوظيفي للأدوار هو أفضل النظريات. حين يبدو بالنتيجة وعلى ارض الواقع تجاوز خلاق للانقسام الفعلي بين الطرفين ويبدو كما لو ان الكل الفلسطيني في لحظة الحقيقة واحد.
وانه لا داعي لعقد هذه المناحات التي يبدو ان البعض بيننا قد أدمن عليها والتي تشبه النوح واللطم في الجنازات الشعبية المصرية، ففي نهاية الامر حاربت حماس ثلاث حروب عسكرية لا تقوى عليها جيوش دول أكبر منها حتى في ظل الانقسام، وتخوض اليوم «فتح» حرباً دبلوماسية هي الأكثر شراسة حتى من زمن عرفات. والمغزى من عقد هذه المقارنة هو ان تيار الحركة الفلسطينية الرئيسي او دفقها التاريخي كان في المحصلة أقوى من دوافع النبذ او الانقسام، ولعل هذا هو العامل الذي رجح كفة النجاح في تحاشي الفشل هنا وهناك، وأكاد أقول تحول هذا الانقسام الى مباراة مفتوحة في التنافس على تحقيق الانتصار: المقاومة المسلحة في غزة، كما المقاومة الدبلوماسية السلمية السياسية في الضفة على الجبهة الموازية.
قال البعض إن أبو مازن يبحث عن نصر يعادل موقفه مع «حماس»، هذا جيد. ولكن ما أظنه اهم من ذلك وأفضل منه. هو تحليل وتفسير ما للمناورة السياسية هنا، كما لو أننا نحلل المناورة العسكرية التي أدارتها «حماس» بعبقرية في الحرب الأخيرة.
هنا يبدو أمامنا رجل يعرف كيف يتربص بعدوه، وإذا كان الأمر ليس بالأمس ولا غداً وإنما بدءاً من هذه الليلة، فليس لأن الرجل كانت تنقصه بالأمس الإرادة او الشجاعة، ولكن لأنه كان يملك تقديراً محدداً للموقف. وهذا التقدير للموقف هو الذي يحيلنا الى جوهر وروح التكتيك اللينيني في هذه الحالة الذي مؤداه تأجيل العمليات الحاسمة، كضربة أخيرة، بعد إنهاك العدو عبر عمليات الاستنزاف الصغيرة.
والراهن انه ليس ثمة وقت آخر لتدفيع إسرائيل كدولة منهكة ومستنزفة وفاقدة للاتزان كما تبدو اليوم، فهذه دولة لم تعد هي نفسها في الماضي، تتنازعها حروب قبلية من الداخل، وتعصف بها الهجمات الدبلوماسية من الخارج، دولة تظهر في هذا المشهد كما لو انها تسير نحو الهاوية، كما لاحظ أعظم أدبائها عاموس عوز، دولة يستنزفها فسادها، وحروب طبقتها السياسية في الداخل، بحيث تبدو كما لو انها امبراطورية قديمة قد دخلت في طور التحلل الداخلي والاضمحلال بفعل نزعة دمارها الذاتي في بيئة وعالم يموجان بالتحولات، وتفقد هذه الدولة دورها ووظيفتها الأصلية كذيل للإمبريالية العالمية أو مخلب قط وكلب حراسة للاستعمار القديم، على هذا الساحل الذي يشكل مصفاة آسيا في الطريق الى الهند وحيث نفط الخليج يؤمنه تحالف غربي وعربي دون حاجة لإسرائيل. ويرى هذا التحالف أن داعش ما كان لها ان تظهر لولا ظلم إسرائيل للفلسطينيين.
وهنا كان التحول الأول الضربة الثانية، بعد تحطيم استراتيجية الاحتلال فعلياً بصمود الفلسطينيين المدهش، هو تفكيك تحالفات هذا العدو، في أخطر وأهم مفصل لها أي أوروبا وأميركا، فهل كان الذهاب الى مجلس الأمن والتصويت على مشروع قرار إنهاء الاحتلال فشلا وهزيمة؟ والجواب كلا. اذ ان علينا هنا التوقف عند الطريقة او الأسلوب، وفي ظني ان التقدم وعرض التصويت على المشروع، إنما كان هو الغطاء او المناورة التعرضية عندما توجه الجيوش في الحرب كثافة نيرانها على جبهة ثانوية لحرف الأنظار على وجهة الهجوم الرئيسي. وهي هنا الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية لتقليم أظافر العدو ونزع أنيابه بينما يمكن العودة لمجلس الأمن في توقيت آخر تكون مؤمنة لفرصة أفضل وهذا الذي حدث.
هذا رجل ليس صدامياً، انه لا يشبه سلفه عرفات بالانتقال الحاد من المفاوضة الى البندقية، ومن الطاولة الى قلب الطاولة مرة واحدة، او من النقيض الى النقيض. وانما يقدم على كل خطوة يخطوها في استراتيجية التصعيد كما لو أنه يصعد على درجات السلم مدفوعا اليها من الخلف من قبل خصومه في اللعبة، الذين لم يتركوا له خياراً آخر او مخرجاً آخر غير هذا الصعود المتوالي، وان حذاقته هنا تكمن في جعل خصومه هم المدانين وفي تفوقه الذي يجعله قادرا على سحب البساط، الذي كان قد امده في وقت سابق من تحت ارجلهم، بحيث يبدو في وضع من يقدر على العقاب، عقاب من يستطيع ان يعطي وان يسحب هذا العطاء او يحرم منه. وهو يبدو في كل ذلك كمدقق حسابات مالية بارع يعرف كيف يستثمر نقوده القليلة لتنمية رأس المال ودون الدخول في مقامرات كبيرة، وهكذا فهو يجيد ترتيب واستثمار أوراقه الرابحة والتلويح بها الواحدة بعد الأخرى، مبقياً الورقة الأخيرة الى النهاية، وذلك ليسهل عليه في كل مرة تجريعها لخصمه قطرة قطرة دون ان يستثير الآخرين حوله، الأميركيين والأوربيين على وجه الخصوص، حيث يبدو كما لو انه من تحت الطاولة يلعب اللعبة معهم باتفاق ضمني وغير معلن على حليفة هؤلاء وربيبتهم القديمة إسرائيل.
وهكذا في المذهب العباسي، يوجد لدى الرجل ما يقوله وما يفعله، أي يوجد له هذه المروحة من الخيارات المتدرجة، فبعد الذهاب الى مجلس الأمن يأتي الانضمام لـ «الجنايات الدولية» وميثاق جنيف، اي يأتي الحساب العسير. وبعد هذا الحساب الذي يهدف الى الردع والعقاب يأتي البحث في مجمل العلاقات والتنسيق الأمني، وبعد هذا البحث في ظل سلاح الردع الجنائي يمكن الذهاب الى الانتفاضة الكبرى والحماية الدولية، بل وفي تداعي الأواني المستطرقة، الإقرار العالمي بالدولة الفلسطينية كحقيقة وقيام فلسطين بقرار دولي.
ان ما يحدث اليوم هو تقريب ساعة الحساب، المحاسبة التي كانت هي الغائب الوحيد منذ العام 1948. وبداية التحول نحو معاقبة إسرائيل وتدفيعها الثمن، وما جرى هو الخطوة الأولى ولكن الحاسمة على طريق انتزاع العدالة التاريخية وإنصاف مظلومية الفلسطينيين وذلك من النظام العالمي نفسه الذي طالما تجاهل مظلوميتنا. وبعد ان نضجت الظروف لانقلاب هذا النظام العالمي الذي تواطأ في الماضي مع إسرائيل، على الدولة المدللة ويبدو الآن مستعداً ليقلب ظهر المجن لها، ومن هذا الإدراك في إسرائيل لما يحدث من تحول على هذا الصعيد، يمكن تفسير الهستيريا لدى بنيامين نتنياهو والطبقة السياسية بمجموعها في إسرائيل. ان ما حدث ولا يجب التقليل من أهميته او نكرانه أننا استطعنا وحتى بعد هذا الوقت المتأخر دفع هذا العالم لإنصافنا أخيراً، ولم يكن ذلك ممكناً لولا صمودنا ولا سيما في الحرب الأخيرة على غزة، التي كانت بطولتنا وكرامتنا كما كانت حروب عرفات منذ خمسين عاماً. وان مأثرة محمود عباس تكمن أخيراً في جعل هذه اللحظة ممكنة. ولكن السؤال الى الداخل الفلسطيني: لماذا يا إخوان هذا التصعيد في المعارضة للرجل في اللحظة التي يتخذ فيها القرار الشجاع، وحينما يبدو واضحاً أن هذه القرارات يبدأ منها الفصل الأخير من عمر هذا الاحتلال؟.