روى ابن كثير في موسوعته التاريخية ( البداية والنهاية ) أن مقاتلاً تترياً قد دخل درباً من دروب المسلمين في العراق به مائة رجل , وبدأ المقاتل التتري في قتلهم واحداً واحد , ولم يتقدم رجل واحد منهم إلى المقاتل التتري ليدافع عن نفسه , حتى قتلهم التتري جميعاً , ثم نهب الدرب وحده وخرج منه سالماً غانماً لم يمسسه سوء .
هذه الرواية لابن كثير تشير إلى سيطرة الرعب على المسلمين زمن التتار , وهذا الرعب , تسبب في هزيمة المسلمين نفسياً قبل أن يُهزموا عسكرياً , فالهزيمة العسكرية ناتجة عن الهزيمة النفسية التي بدورها ناتجة عن استراتيجية الرعب التي اتبعها التتار ضد اعدائهم , والتي كانت توّجه بشكل مقصود من التتار , مستخدمين فيها الاشاعات التي ترّوج عمداً لتضخيم قوة التتار , والمبالغة في قسوتهم ووحشيتهم , فينطبع في أذهان أعدائهم بأنهم جيش لا يُقهر ولا يُغلب , حتى إذا وقعت الحرب هُزمت الجيوش أمامهم عسكرياً بعد أن تكون قد هُزمت نفسياً .
وإستراتيجية الرعب لم تكن حكراً على التتار وحدهم , فقد كانت ولا زالت جزءاً من فلسفة الحرب الصهيونية ونظرية الأمن القومي الصهيوني التي تعتمد على الردع والحسم والتفّوق . فقد اتبعت التشكيلات العسكرية الصهيونية – الهاجاناة وشتيرن والأرجون – هذه الاستراتيجية قبل قيام دولة ( اسرائيل ) بهدف تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها ليحل مكانهم المستوطنون الصهاينة , من خلال إحداث الرعب والخوف لدى السكان الفلسطينيين , فيتركوا قراهم وبلداتهم ومدنهم ويهاجروا منها تحت وطأة المذابح الجماعية التي ترتكبها هذه التشكيلات المسلحة .
وبعد قيام دولة ( اسرائيل ) واصل الجيش الاسرائيلي – الذي ورث التشكيلات المسلحة – بإتباع استراتيجية الرعب مستخدماً المذابح والقصف والاغتيالات والحرب النفسية وغيرها من وسائل القتل والإرهاب والترويع , لمنع الفلسطينيين من العودة إلى بلادهم ,ولإخماد المقاومة الفلسطينية , ولردع الدول العربية من شن الحرب على الكيان الصهيوني , بل ولفرض إرادته عليها , ولإحداث الهزيمة النفسية في الشعوب والجيوش العربية .
ولم تكن هذه الاستراتيجية مجرد عقيدة عسكرية ونظرية أمنية لدى الصهاينة , بل ترجع بجذورها إلى العقيدة اليهودية المحرّفة التي تنظر للآخرين ( الجوييم ) بأنهم أقل مرتبة من اليهود ( شعب الله المختار ) , وإلى الايديولوجية الصهيونية العنصرية التي لا تعترف بوجود الشعب الفلسطيني وتؤمن بأحقية اليهود في فلسطين , وإلى الفكر الغربي الاستعماري الاستعلائي الذي ينظر للشعوب غير الأوروبية من عل فقتل وهجّر وأستعبد الملايين منهم .
ولم تكن الصهيونية هي الوحيدة التي اتبعت استراتيجية الرعب لتثبيت أركانها , فقد شاركتها الداعشية في ذلك , فتنظيم الدولة الإسلامية المعروف بداعش اتبع هذه الاستراتيجية في سوريا والعراق ضد اعدائه – وهم كثر – فالتنظيم يتعمد إبراز قسوته ووحشيته البالغة ضد كل ما عداه من الآخرين المختلفين معه والمخالفين له وحتى المحايدين الذي لا يعطوا البيعة لأمير التنظيم أو خليفة المسلمين – كما أطلقوا عليه أخيراً - , وهذه القسوة المتعمّدة يظهرها التنظيم عبر وسائل الإعلام الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي من خلال نشر صور الفيديو التي تبين عمليات القتل ذبحاً أو رمياً بالرصاص , وقطع الأطراف , وجلد الظهور , والصلب والرجم , والمذابح الجماعية , وتهجير المدنيين , والأسرى المهزومين , وسبي النساء وغيرها من الصور التي تظهر وحشية التنظيم إضافة إلى نشر القصص والإشاعات التي تسبق غزوات التنظيم العسكرية , والتي تجد طريقها إلى مجتمع خائف ومروّع أصابه الإنهاك والإرهاق من الحرب الأهلية والفساد والاستبداد , فيدب الهلع في صفوف من يهاجمهم التنظيم من المدنيين والعسكريين من اتباع النظام الحاكم أو معارضيه , فينهزموا عسكرياً بعد أن هُزموا نفسياً بسبب استراتيجية الرعب الداعشية .
وهذه الاستراتيجية التي يتبعها التنظيم في اطار فلسفته للحرب ليست مجرد عقيدة عسكرية , بل هي أيضاً عقيدة فكرية لها مرجعيتها الخاصة التي تبرر لها كل هذا العنف الممنهج تجاه كل ما عداها على اعتبار أن قاعدتها الفكرية الأساسية تعتبر أن كل ما هو خارج إطارها كفر بواح أو ردة محضة أو فسق واضح أو ضلال وبدعة في أحسن الاحوال . وفي كل الاحوال فإن أصحابها يستحقون القتل والإبادة .
وفي الختام فإن كان القائد المسلم الكبير سيف الدين قطز قد وضع حداً لإستراتيجية الرعب عند التتار , وإذا كانت المقاومة الفلسطينية واللبنانية قد أحدثت نوعاً من توازن الرعب مع العدو الصهيوني , فإن استراتيجية الرعب الداعشية الموّجهة أساساً ضد الأمة الاسلامية وشعوبها المسلمة – وليس ضد الكيان الصهيوني وأعداء الأمة – فإنها ستجد من يضع لها حداً ليتم تصويب البوصلة من جديد نحو القدس وفلسطين .


