بيت لحم/سما/ترأس غبطة البطريرك فؤاد طوال بطريرك القدس للاتين قداس منتصف الليل في كنيسة القديسة كاترينا الرعوية للاتين، بمناسبة عيد الميلاد المجيد بحضور الرئيس محمود عبّاس، ورئيس الوزراء، د. رامي الحمد الله والوفد المرافق له، ورئيسة بلدية بيت لحم السيدة فيرا بابون، ووزير السياحة الأردني نضال القطامين، ومحمد مساعدة أمين عام وزارة الخارجية الأردني، ووزيرة السياحة والآثار رلى معايعة، ومستشار الرئيس للشؤون المسيحية المهندس زياد البندك، والسفير د.عبد الله ناصر سلطان العامري سفير الإمارات في الأردن، ومحافظ بيت لحم اللواء جبرين البكري، وقائد شرطة محافظة بيت لحم العقيد علاء شلبي، والعديد من المسؤولين الفلسطينيين، والسفراء والقناصل وسائر ممثلي الدول والكنائس، والحُجَّاج من مختلف دول العالم.
وألقى غبطته عظة الميلاد، وجاء فيها: «أيها المؤمنون والمكرسون والمكرسات أبناء هذه الأرض الغالية على قلوب كل الشعوب.
لكم جميعاً أتمنى عيد ميلاد سعيدا، ملؤه القداسة والنعمة، أسأل الله ذلك للسيد محمود عباس رئيس دولة فلسطين، ولجلالة الملك عبد الله الثاني صاحب الوصاية على الأماكن المقدسة في القدس، ولجميع المسؤولين في هذه الأرض الممزقة، الباحثة عن سلمها وعدلها، وسوف تحصل بعون الله وهِمة قادتنا، على ما تبغيه من حق وسلام، نطلب إلى الله تعالى الطمأنينة لجميع سُكان هذه الأرض المقدسة، للمسلمين والمسيحيين واليهود والدروز، كما نطلب إلى الله أن يُبعد عنّا العنف ومسبّبيه وفاعليه.
وأضاف: صحيح أن البشرية تسعى إلى خلاص اقتصادي وسياسي واجتماعي، ولكن ما أحرانا أن نتكلم أيضا عن خلاص روحي وأخلاقي، لأنه أساس كلِّ تقدُّم وازدهار بشري، فالإيمان والأخلاق هما المحرِّك لكل خير وفضيلة، أما الآثام فهيَ سبب آلامنا ومعاناتنا، وسببُ آلام غيرنا ومعاناتهم، والعكس أيضاً صحيح. لذا يقوم الخلاص على الندامة والاستغفار أولاً، ويليه نيل الغفران وتجدّد القلب والسلوك، ومَنْ بشَّر، أكثر من السيد المسيح، برحمة الأب ورضوانه، هذا الأب السماوي، طويلِ الأناة وكثير الرحمة، الذي يحاسبنا لا على قدر ضعفنا بل على مقياس رحمته الواسعة.
وأضاف: في هذه الأرض المقدسة جمع الله المؤمنين من الديانات الثلاث، ودعاهم إلى العيش معاً، ولن تُبدِّل أي قوة بشرية تاريخاً بدأه الله في هذه الأرض. فمصير المؤمنين، يهوداً كانوا أو مسلمين ومسيحيين أو دروزا، هو أن يعيشوا معاً باحترام متبادل، ومن ثمّ فإن الحائط الفاصل، بالإضافة إلى ما يُلحق من أضرار مادية ببيوت الناس وحتى ببعض بيوت العبادة، فإنه ينقض طبيعة أرض الله هذه، وطبيعة كلا الشعبين المدعُوَّيْن إلى العيش معاً بتناغم وسلام.
وقال غبطته: إننا نعيش منذ عشرات السنوات في صراعٍ دامٍ. شعبان يتقاتلان، والكراهية وسفك الدماء في ازدياد، ويقول البعض إنها قضية سياسية، ونحن نقول بل هي أيضاً قضية إنسانية، هي قضية الإنسان المُخضع لظروف لا إنسانية، سفكُ الدماء البريئة هو أمر لا إنساني مهما كان مصدره من دولة أو جماعة أو أفراد، وإبقاء شعب في الخوف وعدم الأمان هو أمر لا إنساني، وفرض الاحتلال على شعب هو أمر لا إنساني، ومنع المؤمنين للوصول لأماكن العبادة هو أيضا أمر لا إنساني.
منذ أربعة أشهر عشنا حرباً في غزة كانت نتيجتها الآلاف من الضحايا. هدمت البيوت والمؤسسات، وحتى لو تمت إعادة الإعمار، فمن يبني من جديد نفسية أطفال مصدومين عاشوا في حياتهم ثلاث حروب مُتتالية، ورأوا الأهل وأفراد العائلة يُقتلون أمامهم؟ من يبني أُسراً تهدمت بيوتها، فأخذت من مدارس «الاونروا» مسكناً، ومن حمير غزّة وسائل نقل، ومن يُعيد آلاف القتلى ومن يشفي أضعافهم من الجرحى في النفس والجسد!! والأسوأ من هذا كلِّه، أن كلّ التضحيات ذهبت سُدى، ولم تبدّل شيئاً من معطيات القضية: فالشعب الإسرائيلي ما زال يعيش بين فكّي الخوف وانعدام الأمن، والشعب الفلسطيني ما زال يطالب بأرضه وحريته بثمن عال، والسور الفاصل لم ولن يمنح لا أمناً ولا سلاماً، إذ كل حوادث القتل والعنف في الأشهر الأخيرة قد تمت داخل الجدران وليس وراء الجدران.
وقال: ومن هذا المكان أود أن يسمعَ العالم نداءَين عاجلين: الأول هو مناشدة لإعادة إعمار غزة ولتحسين الأوضاع الإنسانية فيها، فحياة الناس ما زالت تتراجع، وبدأت أنظار الرأي العام العالمي تتجه نحو أولويات أخرى في الشرق الأوسط، وكادت قضية غزة تصبح نسيا منسيا، والنداء الثاني ذو طابع إنساني كذلك ويتعلّق بوادي كريمزان، حيث يخشى الأهالي بأَن يبتلع الجدار أراضيهم فيصعب أو حتى يستحيل عليهم الوصول إليها. والأمر يقلق بال 58 عائلة من بيت جالا ويدّمر الرسالة التي لا زال الرهبان والراهبات يعيشونها، باسم العدل والأخلاق والإنسانيّة أناشد المسؤولين السياسيين والحقوقيين أن يوقفوا تقدم الجدار.
وأضاف: في حجّه الأخير، وقف قداسة البابا فرنسيس أمام الحائط الفاصل بين بيت لحم والقدس، واتكأ عليه وصلّى، وكم كان بودّه أن يُزيحه بكتفه وأن يُلغي معه جدران الكراهية والخوف، والعَمى السياسي ومحاولة إقصاء الآخر، قد ينسى العالم خطابات قداسته أثناء وجوده بيننا، ولكنه لن ينسى وِقفته أمام الجدار، البابا فرنسيس يريد ونريد جسوراً تجمعنا وتوحدنا، فتتشابك الأيدي لعمل الخير. إذا كانت الحرب تستلزم شجاعة وعناداً وتصميماً، فالسلام يتطلب شجاعة أكثر، وتصميماً أكثر، وعناداً قد يصل إلى حدّ الشهادة.
أيها الإخوة والأخوات، لنصل هذه الليلة من أجل السلام في أرضنا. من أجل الرئيس محمود عباس، ومن أجل جلالة الملك عبد الله وكل رؤساء الدول، ليمكنهم الله من صنع السلام وضمان حرية وازدهار شعوبهم. لنُصلِّ من أجل جميع الأسرى السياسيين والمنسيين في السجون، لنُصلِّ من أجل سكان المخيمات الكثيرة المزروعة في بلادنا، لنُصلِّ لبعضنا البعض.


