صَنَّفَ تقرير الشفافية الدولية 175 دولة ضمن ترتيب الأقل فسادا الى الأكثر فساداً في العام 2014. احتلت الدنمارك المرتبة الأولى وكوريا الشمالية والصومال المرتبة الأخيرة. واحتلت ست دول عربية (العراق واليمن وسورية والسودان والصومال وليبيا) مواقع في الثلث الأخير من القائمة، وقد حلت بقية الدول العربية في مواقع متوسطة، باستثناء الإمارات وقطر اللتين اجتازتا نسبة النجاح - 50 درجة - فاحتلت دولة الامارات المركز 25 على صعيد عالمي، واحتلت قطر المركز 26. فلسطين ما تزال غائبة رغم حضورها 3 مرات سابقة، ومع حصولها على عضوية دولة مراقب في الأمم المتحدة، ووجود منظمتين تعنيان بالفساد هما: الائتلاف من اجل النزاهة والمساءلة (أمان)، وهيئة مكافحة الفساد، فضلاً عن وجود قانون لمكافحة الفساد ومؤسسات استطلاع رأي، رغم ذلك لم تدرج فلسطين ضمن الدول الـ 175 المستهدفة بالتقرير.
جهود وقف الفساد سجلت تراجعاً بسبب إساءة القادة وكبار المسؤولين استخدام الأموال العامة وتهريبها وإفلاتهم من المساءلة والمحاسبة كما يقول التقرير. هل يعكس التقرير الدولي حقيقة الفساد في تلك الدول. لا سيما وان منظمة الشفافية الدولية تعتمد على آراء خبراء في منظمات مثل البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية ومؤسسة برتيلسمان الألمانية. هل استقى الخبراء معلوماتهم من نظرائهم في الدول المستهدفة، او اعتمدوا على مصادر مستقلة واستطلاعات رأي عام. تقرير المنظمة يعترف بصعوبة الامر حين يقول: من المتعذر قياس مستوى الفساد لأنه غير مشروع ويتم بطرق سرية. هل هذا يعني أن المخفي أعظم. القضية الأخرى اللافتة للنظر والجديرة بالتوقف أن دول الشمال (الاغنياء) اقل فسادا من دول الجنوب (الفقراء). او بتعبير آخر الدول التي تنهب الثروات وتشن الحروب وتتحكم في الموارد الحيوية اقل فساداً من الدول التابعة. دولة إسرائيل المحتلة جاءت بترتيب 37 في القائمة، هذه الدولة تمارس التطهير العرقي وسرقة الأرض والمياه وتساهم في تجويع مئات الآلاف من الفلسطينيين، ألا يعد هذا فساداً؟ لماذا يشطب كمعيار لطالما ان تعريف الفساد يشمل تجاوز القانون، وإسرائيل تتجاوز القانون الدولي وقوانينها الخاصة في كل ما يتعلق بالشعب الفلسطيني. والفساد يتضمن الإثراء غير المشروع، ومن يدقق في امتيازات المستوطنين وكبار الضباط والوزراء الذين يقيمون على أراضٍ مسروقة ومشاريعهم وأرباحهم واستغلالهم للعمالة الفلسطينية سيجد ذروة الفساد المحمي من مؤسسات الدولة المحتلة. الموقف نفسه ينطبق على دول أخرى تنهب وتهيمن ومع ذلك تعتبر أقل فساداً، وينطبق الموقف على دول تنتهك حقوق العمالة الوافدة والمقيمين من جنسيات أخرى وتستغلهم ابشع استغلال كما تقول تقارير منظمات حقوق الإنسان، لكن موقعها في مؤشر الفساد يعتبر متقدما. ثمة نموذج آخر للتناقض بين التقرير ونتائجه وما يجري على ارض الواقع. جاء في تقرير المنظمة العربية لمكافحة الفساد، أن حجم الأموال التي نهبت وسرقت وبددت في العالم العربي خلال الخمسين عاماً الماضية تقدر بألف مليار دولار. ولا يذاع سر القول إن دول البترو دولار والغاز دولار تقع في مركز الهدر ورغم ذلك تعتبر الأقل فسادا. كما الديمقراطية لا تتجزأ، فإن ممارسة الفساد ضد الآخر لا تتجزأ ايضا، الدولة التي تقمع شعباً آخر ليست ديمقراطية، والدولة التي تسرق وتنهب وتفقر شعباً آخر لا يمكن تبرئتها من الفساد، ولا معنى لشفافية تغفل هذا النوع البشع والعنصري من الفساد.
واقع الفساد في فلسطين. أظهر مقياس الفساد على مستوى العالم للعام 2013، الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية بالتعاون مع مؤسسة أمان الفلسطينية أن 85% من الفلسطينيين أقروا باستخدام العلاقات الشخصية (الواسطة والمحاباة) في الحصول على الخدمات العامة. وأظهر المقياس بأن 44% من المبحوثين الفلسطينيين يرون أن مستوى الفساد قد ازداد مقابل 27% منهم يرون أنه انخفض و30% يرون بأنه بقي على حاله. هذا الاستطلاع ينسجم مع استطلاعات الرأي في السنوات السابقة والتي تؤكد اعتقاد أكثرية ساحقة بوجود فساد في السلطة والمؤسسة والمجتمع. ولا يختلف كثير من المواطنين حول دور الفساد في زعزعة الثقة بالمؤسسة والمرجعيات السياسية والقانونية، وفي تفتيت منظومة القيم الأخلاقية، وتفكيك بنية المجتمع وإضعاف مناعته في التماسك والصمود أمام ابشع عملية تطهير عرقي بدأت في العام 47 وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا. لذا فإن مقاومة الفساد وهزيمة الفاسدين لا تنفصل عن مقاومة المحتلين والمستوطنين ومشروع الفصل العنصري الكولونيالي. الربط يقود الى الدخول في معركة الفساد غير القابلة للتأجيل، التي يقود كل تقدم فيها الى التقدم على الجبهة ضد الاحتلال.
إصدار قانون الكسب غير المشروع، وتشكيل هيئة مكافحة الفساد، ومن قبلهما تشكيل الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان)، كلها خطوات مهمة في المعركة ضد الفساد والفاسدين. فقد نتج عن ذلك مستوى من التفاعل الإيجابي داخل المجتمع الفلسطيني للمشاركة في هزم الفاسدين، وتمثل في تقديم 450 شكوى خلال العام 2014، وكانت الهيئة قد تلقت 392 شكوى وبلاغاً في العام 2013.
يقول رئيس الهيئة رفيق النتشة: نجحت الهيئة في إعادة 70 مليون دولار لخزينة وزارة المالية في مجمل القضايا التي نظرت فيها حتى الان، ويضيف، تم البت وإصدار أحكام في 40 قضية من قبل محكمة جرائم الفساد.
وكان رئيس الهيئة قد لفت النظر الى مشكلة كبيرة وخطيرة عندما قال: إن هيئة مكافحة الفساد تنتظر منذ عامين ونصف إصدار حكم بحق وزيرين سابقين، مع ان القانون ينص على إصدار الحكم خلال 3-10 أيام. بدأت العملية ولا بد ان تتدحرج لتطال كل المسكوت عنه سابقاً، وما اكثر القضايا التي تدور في خلد المواطنين حول الخراب الذي ألحقه الفساد بالمجتمع.
أسئلة كثيرة من المفترض طرحها، في مقدمتها "التهرب الضريبي" والاتجار بالأدوية والأغذية الفاسدة، والتوظيف والترفيع الزمني في مؤسسات السلطة، والتعيين السياسي اللامهني في السلك الدبلوماسي، والبطالة المقنعة في مؤسسات السلطة.
السؤال الذي يطرح نفسه هو هل هيئة مكافحة الفساد هيئة مستقلة، ومن يراقب ويقيم عمل الهيئة، ومن يراقب أيضا عمل أمان.
أستطيع أن اختم بالقول: إنه في غياب جسم رقابي مهني مستقل عن السلطة، والمرجعيات السياسية، وفي استمرار حالة الضعف الإعلامي في طرح القضايا، فمن المشكوك فيه معالجة جدية لوباء الفساد، وسنظل نراوح في كسب نقطة هنا وعمل اختراق هناك


