خبر : طوبى لرضوى ...عدلي صادق

السبت 06 ديسمبر 2014 09:33 ص / بتوقيت القدس +2GMT
طوبى لرضوى ...عدلي صادق



كانت غرناطة الأندلسية، هي نفسها، تلك الفتاة الغامضة التي تعّرت، ومشت في المنحدر، ثم توارت تماماً عن الأنظار. هكذا رسمتها رضوى عاشور، في ثلاثيتها الروائية، مثلما رآها أبو جعفر، صاحب الحانوت في حي الوراقين من مملكة غرناطة. وعلى امتداد القَصّ في الملحمة الأنيقة، رشيقة اللغة، وباعثة الحياة في عروق التاريخ؛ كانت رضوى تروي لقارئها، كيف تتجرد الأمم من عزها وغيرتها حتى على عرضها، فتتبدى عوراتُها، قبل أن يندثر مجدها. ومثلما قالت فريدة النقاش، رفيقة رضوى "حين ينتهي المرء من قراءة غرناطة، لا بد أن تعتريه قشعريرة في الروح". وفي الحقيقة، كانت مخيلة رضوى عاشور، التي صقلتها رحلات وتأملات، الى - وفي - مسرح العمل الروائي، وتخللتها انبعاثات شجن، في حي "البيازين" الأندلسي، الذي لا يزال شاهداً بعمارته البديعة، على تاريخ إسلامي زاهٍ.
البقاء في الأرض، هو ذروة البطولة، ولا كارثة إلا في الرحيل. هكذا أرادت الكاتبة أن تقول. ولكي تكون مقنعة، شحذت لغتها ومخيلتها، لكي تصف كل شئ وتمر على كل التفاصيل. لم تكن ستذهب الى غرناطة، بشخصها ثم بقلمها، ومن ثم الى الطنطورة الفلسطينية، بعينيها القارئتين الذكيتين؛ لولا أنها مرت بتجارب القلق الأقصى، مع تشتت الأسرة مثلما تتشتت الأمة، وما لم تكن كابدت للظفر بأبسط حقوقها الإنسانية، في فضاء ظالم. فكلما تألمت، تحمست لأن تحكي قصة غيرها ممن يألمون. ولما تفرقت الأسرة، استحضرت معاناة أسرة فلسطينية مُتخيلة، اقتُلعت من أرضها، فلجأت الى لبنان ومصر والإمارات، لتعاني آلام المهجر. فلم تنته نكبة الأسرة الطنطورية فصولاً، لأن الناكبين لاحقوها في مخيمات اللجوء في لبنان. تتمثل رضوى في روايتها عن رُقية الطنطورية، لهجة فلسطين ومزاج أهلها. وكان اختيار المكان والأسرة، أصلاً، مستمداً من وثائق حقيقية، أظهرت بشاعة الصهيونية، في عملية الاقتلاع التي نفذوها لكي يشردوا أهالي الطنطورة!
في المنحى الروائي العام، وكما في ثلاثية غرناطة، أبلغت رضوى رسالتها. إن كل امتهان لكرامة الإنسان وأدميته وحقوقه، يوّلد ثورة وعنفاً. فعندما وقع من تبقى من المسلمين في الأندلس، تحت قبضة القشتاليين وكهنتهم المتطرفين، وحلّ فيهم التعذيب البدني والنفسي الرهيب، فتفرقت الأسرة الغرناطية. كان سعد، زوج سُليمة الذي يعمل في حانوت أبيها، قد صعد الى الجبل وانضم الى فدائيين، يغيرون على القشتاليين. أما سُليمة، فقد ظنت أنها بعملها السلمي جداً، ستأمن تماماً وتندمج في العهد الجديد وتسترد زوجها. اختارت الطبابة، واستهوتها فكرة الملاك الرحيم. وباستخدام الأعشاب ثابرت على تجاربها لصنع الأدوية من الأعشاب، لمعالجة المرضى من كل عرق ودين. لكنهم قبضوا عليها واتهموها بالشعوذة، وامسكوا بسعد واقتادوه الى حيث يكون إعدام سُليمة حرقاً. شاهد زوجته وحبيبته، وهي تصرخ قبل الموت. رمزية النار في تلك الواقعة، تنسحب على كل من قتلته النار، فيما هو يتوخى الحياة والعيش الآمن!
كانت غرناطة الثلاثية الروائية، عابرة للزمان والمكان، مقيمة في كل زمان ومكان. أما رضوى، فقد استقلت قطار فلسطين، منذ أن اقترنت بواحد من أبنائها، مفعم بأحاسيس الشاعر ولغته وموقفه الوطني. عبرت بالقطار الى معاناة إفريقيا، ومرّت على مساحات المهمشين في الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية. لكن فلسطين ظلت هي رأس القاطرة، لأنها تلخص المعاناة الإنسانية في أربع رياح الأرض.
أعياها السقام في الشهور الأخيرة. أحست رضوى ان الله قد أوفاها النعمة، بإنجاب شاعر شاب، هو ابنها تميم، وأنها ستغادر الى الدار الأخرى، تاركة زوجها الوفي، الذي كابد معها مشاق الحياة وكابدت معه. فطوبى لرضوى عاشور.