طوال عمرها الوجودي وفرضها لوقائع احتلالية استيطانية على الأرض الفلسطينية، لم تكن إسرائيل يوماً من الأيام دولة يسارية أو أنها تؤمن بالفكر الوسطي والحلول السلامية التي تقبل بقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة فوق أرضها التي اغتصبها الاحتلال.
ليس هذا المقال موجها للحديث عن اليسار الإسرائيلي، لكن من المهم التذكير أن حزب العمل الذي يعتبر خط الوسط وأبا العلمانية في إسرائيل، لم يكن يوماً من الأيام ليتفق أو ينسجم مع تطلعات الشعب الفلسطيني في حق تقرير المصير.
هذا الكلام مردود على حزب العمل والأحزاب التي تصنف نفسها بأنها يسارية، وعلى قادتها الذين دخلوا في خلاف حاد مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، على خلفية مجموعة من القضايا الداخلية والخارجية، من أبرزها السياسة تجاه الفلسطينيين في القدس المحتلة ومشروع قانون يهودية الدولة.
لقد قامت إسرائيل على فكرة سلب ونهب الأرض الفلسطينية ومصادرتها بالقوة وطرد الفلسطينيين وتوطين اليهود، ومنذ تأسيس "العمل" من قبل مجموعة من الاتحادات في ثلاثينيات القرن الماضي، جسّد هذا الحزب العنصرية وإلغاء الآخر.
ولم تتغير مواقف الحزب حتى بعد توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993، بل ظل يختبئ خلف عنصريته ويحرض فعلاً على قتل أوسلو، وكثيرون من قيادته وعلى رأسهم الأحياء شمعون بيريز وأيهود باراك، أسهموا بقوة في إضعاف الحالة الفلسطينية.
ما يجري في إسرائيل هو مزاودة بين الأحزاب على كره الفلسطينيين، لكن بطبيعة الحال لا يتفوق أحد على الأحزاب اليمينية ومن بينها الليكود طمعاً في مواصلة احتكار صناعة القرار، خصوصاً وأن نتنياهو قرر فتح النار على كل المحاولات الأميركية وغيرها الهادفة إلى تنشيط عملية السلام.
لقد جرب الفلسطينيون جميع الحكومات الإسرائيلية ومن كان يمثلها من الأحزاب التي تتوزع بين اليسار والوسط واليمين، وفي أحسن الأحوال لم يحصل الفلسطينيون على ما يشفي غليلهم، بل ظلت المراوغة واستهداف الأرض الفلسطينية هي الشغل الشاغل لكافة الحكومات في تل أبيب.
حتى أن سياسة مثل تسيبي ليفني التي تحتج على مشروع قانون يهودية الدولة وتؤمن بحل الدولتين، لم تقدم أي شيء لعملية السلام طوال مسيرتها على رأس وزارة الخارجية، حين شغلت هذا المنصب أيام شارون وبعده أيهود أولمرت.
ليفني التي انسلخت مع شارون عن حزب الليكود، ومضيا في تأسيس "كاديما"، لم تتمكن من رئاسة الحكومة ولا حتى إدامة رئاسة حزبها، وحين أعلن نتنياهو عن تشكيل حكومته شاركت فيها، انطلاقاً من أهداف شخصية وانسجاماً مع أيديولوجيتها المعادية للفلسطينيين.
أصدق تشخيص بين تحالفات الأحزاب الإسرائيلية وزواج المصلحة هذا هو أنها تحالفات بين الشيطان والشيطان، ولا أحد فيها ينفع الفلسطينيين، حتى أن المغدور اسحق رابين لم ينفع الفلسطينيين بعد أوسلو، وهدف من وراء اتفاقه معهم إلى المراوغة في مفاوضات من أجل المفاوضات.
الذي يحدث الآن، هو أن نتنياهو يرغب في إعادة تحصين موقفه وتشكيل حكومة يمينية صافية لا تنتقد قراراته، إلى جانب أنه استثمر الوقت في هذه المرحلة الحساسة بالذات من أجل ركن عملية السلام إلى أجل غير مسمى.
بمعنى أن نتنياهو اتخذ خطوات تصعيدية ضد كل من وزيرة العدل تسيبي ليفني ووزير المالية يائير لابيد، وقام بعزلهما واعتبر أنهما يقودان حملة للانقلاب عليه، ومن ثم ذهب إلى الكنيست لإجراء انتخابات مبكرة وحل البرلمان نفسه بالقراءة الأولى.
نتنياهو افتعل مشكلة كانت موجودة، لكنه نفخ فيها كثيراً حتى تنفجر على السطح، وبالتالي يتحول الاهتمام الإسرائيلي إلى القضايا الداخلية، وينعطف بشكل حاد نحوها دون أي التفاتة إلى موضوع استكمال عملية السلام، وقطعاً للطريق أمام مشروع فرنسا للسلام ومحاولات وزير الخارجية الأميركي كيري لإعادة حبل المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
الظرف العام يساعد نتنياهو، فهو إلى جانب كونه مدعوما من قبل مختلف الأحزاب اليمينية المتطرفة، فإنه يتحرك على قاعدة أن الرأي العام الإسرائيلي يؤيد قراراته العنصرية، مع العلم أن استطلاعات الرأي ترجح فوز نتنياهو في انتخابات السابع عشر من آذار 2015.
ويدرك نتنياهو أن هذه المرحلة هي الأهم بالنسبة له لفرض وقائع جديدة على الفلسطينيين، مستنداً إلى حلف حديدي صلب واستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً وأن الكونجرس ترجم علاقته القوية مع تل أبيب، بإقرار قانون لتعزيز التعاون وزيادة الدعم العسكري لها.
عنوان الشراكة مفتوح بين البلدين على كافة المجالات، يشمل هذا بالطبع المجال العسكري وتوسيع قيمة مخزون الأسلحة الأميركية في المستودعات الإسرائيلية ليصل إلى 1.8 مليار دولار، مع إمكانية السماح لتل أبيب استخدام هذه الأسلحة في الأوقات الصعبة كما حدث خلال عدوان الاحتلال التموزي الأخير على قطاع غزة.
مع دولة داعمة وقوية مثل الولايات المتحدة، وانشغال المجتمع الدولي بقضايا تتجاوز الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وفي ظل الانقسام الفلسطيني الخطير الذي يأخذ أبعاداً كارثية تزداد يوماً بعد يوم، فإن واحداً مثل نتنياهو سيستفيد من هذه الخلطة لفرض مخططاته الصهيونية على الأرض.
وحين كان على رأس الحكومات السابقة، ظل نتنياهو يسعى بقوة لفرض تحولات جديدة في المجتمع الإسرائيلي، يريد منها تعميم الأيديولوجية اليمينية على كافة طبقات المجتمع، وجعل الأخير يوافق بسهولة على يهودية الدولة ودفع عرب 48 إلى خارج الدولة العبرية.
الآن يعود نتنياهو إلى ممارسة لعبته الديمقراطية بالذهاب إلى الرأي العام الإسرائيلي لمساعدته في الوصول مرةً أخرى إلى سدة الحكم، وطلب تفويض واضح من الناخبين لدعم سياساته، ومن المرجح أنه سيحظى بفرصة رابعة لقيادة الحكومة الإسرائيلية.
الفرق بيننا وبينهم، أنهم في لحظة أي خلاف صعب، يخضعونه إلى امتحان الانتخابات التي من شأنها إعادة صياغة العملية السياسية على أجندة إسرائيلية واضحة وقائمة على عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة والعمل ضدها وضد الشعب الفلسطيني.
أما عندنا فنحن لا نؤمن بالعملية الديمقراطية ولا ندع الشعب الفلسطيني يقرر مصيره ويختار من يقوده، والأجندة غائبة تماماً، وحينما يحتدم النزاع الداخلي ترانا نكفر بكل أنواع المصالحة والعودة عن الانقسام، ويزداد حالنا بؤساً وفقراً يوماً بعد يوم.
متى يأتي ذلك اليوم الذي تحتكم فيه الفصائل الفلسطينية إلى الانتخابات حتى يقول الشعب كلمته وحتى يشحن طاقته ويستعد لخوض مرحلة جديدة من مراحل الصراع الطويل جداً مع إسرائيل، خصوصاً وأننا مقبلون على مرحلة كسر العظم؟؟
Hokal79@hotmail.com


