هذا شتاء يعيدنا في الذاكرة وقد تقادم العمر الى شتاء قديم، كأنما يظل هو الشتاء الأول اله المياه والمطر والعواصف كما في المثيولوجيا الذي انسلت منه ونشأت كل هذه الفصول المتعاقبة من دوران الشتاء التي ولدت منه . كأنما الذاكرة البشرية وهي معصرة التاريخ تأبى في تنضيدها وتخزينها للأحداث ان تدع أي اختلاط أو تشويش يفسد ترتيبها الرقمي في خافية اللاوعي للأمم كما للناس العاديين. هو ذاك إذن الطوفان الأول للمياه الطوفان المصغر الذي سوف تظل تقترن به كل هذه الفيضانات اللاحقة، شتاءات تحول المدينة الى سيول وبرك من الماء تغرق معها الشوارع والبيوت، وتستدعي في برودتها القارسة وظلمتها الحالكة ذلك الطوفان الأول، وحيث بكارة الأشياء دهشتها الأولى انفعالها الذي يحدث اثره العميق في النفس وتخلده الذاكرة ابد العمر.
هو ذاك اثر الطوفان البابلي في الذاكرة الجمعية لشعوب ما بين النهرين في ملحمة التكوين البابلي وجلجامش، والتي سوف يمتد ذكراها الى التوراة والقرآن. وهو ذاك الطوفان القديم لوادي نهر النيل الذي سيقدم المصريون القدامى كل عام قربانا لتهدئة غضبه متمثلا بعروس عذراء جميلة. وفيما يبكي الفلاح الذي غمرت المياه زرعه فإن ابن الفلاح سوف يسعد بالطمي الذي خلفه طوفان النيل لتخصيب ارضه.
هو ذاك طوفان مديني حديث العهد لا ينشد الزرع ولا ان يتحول الى موعظة دينية او آية او سورة دينية تكتب على ألواح فخارية تدرس كقصص تعليمية، تسجل لبدايات القص التاريخي في زمن بدأ فيه التاريخ للتو يحفظ في ذاكرة مكتوبة. لا هو شتاء يشبه في سورة غضبه وطوفانه احتجاجا اقرب ما يكون الى استدعاء الجدالات الفلسفية أو تظاهرات واحتجاجات السود كما في أيامنا هذه في الولايات الأميركية، أو في أنشودة المطر لبدر شاكر السياب عن احتجاج الطبيعة السماء على انفصال الإنسان، في إعادة بناء أقداره ومصائره عن الطبيعة الأم عن الإنسان البري الاول.
انه شتاء لا يعدو ان يحيلنا منذ هذا العهد الموغل في القدم والمبكر الى الأنا العليا في طفولة الجنس البشري، وماضيه المختزن في هذه الانا الكبرى والعليا على شاكلة هذه الرشوحات او التسربات التي تمثل بمجموعها قوة واستمرارية الذاكرة الجمعية، قوة اللاوعي الجمعي في العقل الباطني. واذ يبدو هذا التحويل حتى على المستوى الفردي غامضا ومعقدا فإن الأفكار والتصورات الأولى في طفولتنا والتي يصعب ادراكها في هذا الوقت وانما الإحساس بها، فأن هذه الصور او التجربة انما تحاكي بنفس القدر حقيقة التجربة المبكرة للجنس البشري والمحالة في طفولته مهاد التاريخ ووعيه الى الاسطورة. وحيث الثنائية الأنوية التي توزع هذه الأسطورة والتاريخ نفسه الى الصراع او التناقض: التكوين المشاعي الفطري البدائي الأول والتكوين البابلي الزراعي. أنكيدو القادم من الرعي والذي يتكون ثلثاه من حيوان وحشي وثلثه الباقي من إنسان، وجلجامش المديني الزراعي الذي ثلثه يتكون من حيوان وثلثاه من إنسان.
ولكن الذي يقتضي لأجل بلوغ الإنسان نصف الوحشي اكتمال تكوينه الإنساني وصولا الى التشبه بالآلهة، بالقضاء على الموت وبلوغ الخلود، اقتياده هذه المركبة السفينة السحرية لخوض غمار الماء في مغامرة العقل الأولى سعيا للحصول على نبتة هذا الخلود في أعماق النهر. وحيث كان الماء منذ البدء سر الأسرار وأساس التكوين قبل ان تكون هناك حياة وموطن الآلهة الأول، حين لم يكن هناك في الأعالي سماء ولم يكن هناك في الأسفل ارض.
على مشارف هذا التحول من طور الوحشية الى طور البربرية في الطريق الى المدنية، يحدث الطوفان البابلي العظيم وكأنه التذكير الذي سيرد على لسان انكيدو، من ان الطبيعة هي المعلم الصارم الذي سيعلم الإنسان المصائر والأقدار في ذروة هذا التحول والانتقال من المشاعية والرعي الى الزراعة والمدنية، وكأن هذا الطوفان والشتاء الثائر في فصل يتعاقب كل عام تعبيرا عن غضب آلهة المياه الأولى رب الأرباب آبسو عن ذكرى مقتل الأب القتيل لأجل تطهير النفس البشرية من خطيئة قديمة، خطيئة قتل الأب التي تتحول في قصة الطوفان المتأخرة في اليهودية والإسلام الى التأسيس لعملية اصطفاء جديدة على الأرض وتحقيق المصالحة مع الله.
لقد اقترن من بين تقلبات فصول الطبيعة بكونه هو الأب الذي يعاقب، الأب الذي يعاقبنا على أخطائنا ومن يفرض علينا العودة الى البيت باكرا، كما اقترن بكونه هو الذي يرمز الى شيخوخة الحياة موتنا الذي ينذر بالقدوم، حين تبدو برودته القارسة ودياجير العتمة في لياليه الطويلة تشبه برودة وظلمة القبور، وهي التي تبعث فينا كل هذه الوساوس الدفينة وتعيد احياءها حول معنى الوجود. انه الفصل من السنة الذي يشدنا الى دواخلنا يسحبنا من الخارج الى الداخل، ويبعث فينا ويستحضر دفعة واحدة كل ذكرياتنا الأليمة ومخاوفنا الدفينة التي ترافق شعورنا بقرب النهايات حول مصائرنا ومن بعدنا.
انه الشتاء الآخر في أزماننا المتأخرة وقد كسى الشيب الأبيض رؤوسنا الذي يبتعد فينا عن طوفانه الأول في طفولتنا، حين ذاك كان مصدر دهشتنا يشبه الى حد ما بابا نويل، شيخا عجوزا يلاعبنا او يمازحنا، وحين لم تكن المدينة تمددت في خطاياها الى هذا الحد الذي لم يبق من بكارة الطبيعة في زمن الطفولة أي شيء بعد ان توغل العمران والحجارة حتى غطت كل متنفس على الارض، حتى لكأن الطوفان الأول يسجل على انه الذكرى الأخيرة في ختام عصر وزمن من حوار ناعم بين الطبيعة والإنسان، حين كان ينظر الى المطر كرحمة من السماء على الأرض وبركة، حتى كأن المطر كان في هذا الوقت يشبه الألوهية الأولى باعتباره هو اله الخصب قبل ان تتواطأ على قتله تعاما وتسلب منه هذا الحق، ثم تقتل هي الأُخرى على يد الابن الإله قبل ان يعاود الابن المذكر الاله يلقى المصير نفسه ويقتل ويتحول دمه الإلهي المراق، لان ينبت في سهل حوران شقائق النعمان.
هو شتاء من كل عام ربما يخرج فيه الأب القتيل الاول آبسو يبكي المصير الذي انتهى اليه مجمع عائلة نسله من آلهة بابل القديمة، وكأنما يغسل بدمعه السماوي المدرار كل آثار هذه الخطايا منذ بداية الخلق وجرائم القتل الوحشية، التي اورثها عبث آلهة قديسين لبشر خلقتهم هذه الآلهة على صورتها، لنصف قديسين وملائكيين اكثر قليلا ونصف متوحشين اقل قليلا . حتى لكأن هذا البكاء لم يبق منه سوى التأمل في صوفية إيمانية اقرب الى نوع من الشاعرية المفقودة او الحنين الى فردوس قديم، طهارة الأشياء الأولى وفطرة الحياة والطبيعة الأولى، والابتهال الى الله العزيز المقتدر ليصرف أحوال الأشياء، كما يمكن ان ننشد اخيرا هذه الصلاة على لسان عمر الخيام في رباعياته الشهيرة:
"ان تفصل القطرة عن بحرها ففي مداه منتهى أمرها".


