خبر : عندما تلتحق قوى ونخب بالعفوية ! بقلم: مهند عبد الحميد

الثلاثاء 25 نوفمبر 2014 08:53 ص / بتوقيت القدس +2GMT



قد يعوز التذكير بأن الشعب الفلسطيني الأعزل كان من أكثر الشعوب استهدافاً بالقتل والتدمير والتشريد من خلال تعرضه لأبشع عملية تطهير عرقي ما تزال حلقاتها متواصلة، وقد دفع وما يزال يدفع ثمناً باهظاً في الصراع مع المشروع الصهيوني الإقصائي منذ قرن وحتى أيامنا هذه. تدمير القرى داخل فلسطين وتدمير المخيمات خارجها والمجازر الموثقة، بخاصة ما ارتُكب منها أثناء العدوان الأخير على قطاع غزة، وكل الجرائم التي استهدفت الأبرياء في القدس والخليل، تشهد على الكارثة المتواصلة والمفتوحة على كل الأخطار. وفقاً لذلك فإن الشعب الفلسطيني في حالة دفاع مشروع عن النفس، ويملك الحق في مقاومة كل أشكال سرقة الأرض والإقصاء وأعمال القتل والقهر والإذلال ومحاولات الإخضاع. والمقاومة هنا هدفها منع دولة الاحتلال من تحقيق أهدافها أولاً، وتحقيق أهداف المقاومة المشروعة في التحرر وتقرير المصير وإعادة بناء الكيان الوطني على أُسس ديمقراطية ثانياً. ليس الهدف من المقاومة هو الثأر والانتقام على الجرائم التي يرتكبها المحتلون.
ثمة فرق كبير بين مقاومة تنتزع مكاسب وتسجل نقاطا صغيرة وكبيرة وتحبط أهدافاً مضادة في سياق التحقيق التدريجي لمشروعها الوطني، وبين مقاومة تنتقم وتثأر من المحتلين كهدف مجرد ومعزول. المقاومة الأولى ستكون معنية ببناء ميزان قوى تدخل فيه قوى إسرائيلية ضد الاحتلال، أو كسب مواقف إسرائيلية مؤيدة لحق الشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال، معنية بدعم وتأييد وتعاطف الحلفاء والأصدقاء في المجتمع المدني العالمي، وبدعم اكبر عدد ممكن من الدول لنضاله المشروع، معنية بمشاركة كل هؤلاء في الضغط على دولة الاحتلال وممارسة العقوبات ضدها وعزلها وفرض التراجع عليها. ولأن المسألة هي صناعة ميزان قوى والصراع على كسب المؤيدين والمتعاطفين، فإن التفوق الإنساني الأخلاقي قضية في غاية الأهمية، ذلك التفوق الذي يؤدي الى تفوق سياسي فلسطيني مدعوم عالمياً وعربياً ومدعوم من اتجاهات إسرائيلية ضد الكولونيالية والعنصرية.
من يريد أن يبني ميزان قوى ضد دولة الاحتلال من اجل فرض التراجعات عليها، لن يجد غير القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف وبروتوكوليها الإضافيين التي تشكل مجتمعة ضمانة مبدئية وسلاحا قانونيا لحماية الشعب الفلسطيني في مواجهة غطرسة القوة. في كل صراع هناك ناظم، والناظم هو فكرة إنسانية كونية للجميع، إذا لم تكن هذه الفكرة موجودة ينبغي إيجادها، واذا كانت موجودة وغير مفهومة ينبغي شرحها وتوضيحها. منظومة القوانين التي صدرت بعد الحرب العالمية الثانية كانت إنجازاً لأهم العقول المنحازة للإنسانية جمعاء. الذي لم يطبق القوانين ولم يلتزم بها عمليا هي القوى الاستعمارية التي واصلت الحرب والنهب، وفي صراعنا مع دولة محتلة كولونيالية وعنصرية ما أحوجنا للفكرة الإنسانية التي يدوسها الاحتلال وهذا أمر طبيعي، وتتنصل منها قوى سياسية وبعض المثقفين لأن الاحتلال يدوسها، وهذا أمر مفجع وغير طبيعي. من يريد ان يبني ميزان قوى ويحقق مكاسب ولا يسمح لغطرسة القوة الاستفراد بالشعب الأعزل لن يجد بُداً من اعتماد أشكال النضال المشروعة والتي تجد لها غطاء قانونيا ودعما من الحلفاء والأصدقاء في (المجتمع الدولي ) وتكون لها جدوى في انتزاع مكتسبات وفي إحباط أهداف مضادة.
ان عدم التزام دولة الاحتلال بالقانون الدولي الإنساني ودوسها على الشرعية الدولية واستبدالها بشرعية دينية وأساطير، وارتكابها جرائم حرب على اختلاف انواعها، وتواطؤ النظام الدولي مع الدولة المحتلة. كل هذا لا يبرر نزع ثقة الشعب ونخبه السياسية والثقافية تحت الاحتلال بالمرجعيات القانونية التي تشكل اهم سلاح بيده. ليس من مصلحة دولة لديها أطماع كولونيالية فاقعة الالتزام بمرجعيات وبقانون يخدم الشعب الذي يناضل ضدها، لذا نجد أنها تستبدل القانون الدولي الإنساني بشريعة الغاب وغطرسة القوة وتجد نفسها محمية بالتواطؤ الدولي ومستمرة في نهبها في الوقت عينه. لنفترض أننا حاولنا الرد بنفس الطريقة الإسرائيلية، وقلنا إننا لن نلتزم بالقانون الدولي لأن دولة الاحتلال لا تعترف به، ماذا ستكون النتيجة؟ سنخسر الأصدقاء والحلفاء وننعزل عالميا، وستستفرد دولة الاحتلال بالشعب وتمضي في مخططاتها بمعدلات اسرع مما تفعله في كل المراحل السابقة والراهنة. وستتضاعف خسائرنا وتشتد معاناتنا.
هناك من قال إنه لا يوجد مدنيون في إسرائيل، حتى الأطفال سيصبحون جنودا في المستقبل، وان الكنيس الذي تعرض للهجوم في القدس ليس مقدسا لأنه يبث التحريض على قتل العرب وكراهيتهم، ولا يجدون خطأ في استهدافه بالهجوم وبقتْل وجرح من فيه. ويبررون هذه العملية باعتداء إسرائيل الدائم على المسجد الأقصى وبتدمير وحرق مساجد في غزة والضفة الى غير ذلك من أعمال إجرامية. هؤلاء يبررون الرد بالمثل لطالما أن من يبادر بالعدوان والقتل هو المحتل. طبيعي ان تصدر مواقف وتحليلات من عامة الناس، وطبيعي أن يتشكل المزاج الفلسطيني العام بهذه الروحية من رد الفعل، لكن صدور مواقف من هذا النوع من قبل نخب سياسية وثقافية فهذا غير طبيعي أبداً. عندما يلتحق الوعي بالعفوية والمزاج العام فهذا يدل على وجود أزمة عميقة. لم تتخيل بعض النخب وجود معارضين إسرائيليين بما في ذلك رافضون للخدمة العسكرية، لم يتخيل بعض اليساريين الذين ركبوا الموجة وجود مدافعين إسرائيليين عن حقوق الإنسان وعن إمكانية تشكل نضال مشترك ضد الاحتلال والكولونيالية والعنصرية ومن اجل العدالة. اصبح كل ما يعنيهم هو الرد بأي ثمن حتى لو خسر الشعب الكثير. اصبح شعار العين بالعين هو الناظم ليسار كان شعاره "يا عمال العالم اتحدوا" .
صحيح ان ظاهرة العنف العفوي وظاهرة خروج البشر عن أطوارهم تعود الى أعمال القهر والإذلال والخنق الذي تمارسه دولة الاحتلال طول الوقت. لقد دفع القهر والظلم الضحية الى الأخذ بمنطق "علي وعلى أعدائي" بعد أن فقدت كل شيء ولم يبق لديها ما تخسره. بهذا المعنى فإن دولة الاحتلال هي المسؤول الأول عن تشكل ظاهرة الدهس والطعن والهجوم على الكنيس وتحويل الصراع الى صراع ديني. ولكن هناك مسؤولية للتنظيمات السياسية في المبادرة الى خيار آخر تشارك فيه قطاعات واسعة من الشبان والمواطنين. هذا الدور المفترض مختلف تماما عن تبني هذه الأعمال الفردية والعفوية والتذيل والنفخ بها. انه دور فتح الآفاق وإضاءة الطريق وتجميع عناصر القوة ومراكمة الجهود وتفعيلها والحفاظ على استمراريتها، بما في ذلك تحويل النضال الفردي إلى نضال ثوري منظم، وبناء منظومة قيم وثقافة التحرر المختلفة تماما عن ثقافة غطرسة القوة من جهة والثقافة الشعبوية العفوية من الجهة الأُخرى.

Mohanned_t@yahoo.com