تختلف الرؤية في الوسط الفلسطيني أولا ثم العربي لعملية القدس الأخيرة، ويختلف التقييم لها والموقف منها، ما بين أغلبية كبيرة مباركة ومرحبة، وبين متحفظ او متردد، وبين رافض ولا نقول مدين. وهذا أمر طبيعي طالما بقي في حدود الجدل الصحي وفي الإطار الوطني وعلى قاعدة مقاومة الاحتلال. فالعملية بطبيعتها وتوقيتها ومكانها وجرأتها وبمن توجهت إليه، عملية تستدعي الجدل، خصوصا وان هناك شبه إجماع على أن العملية سيكون لها ما بعدها في اكثر من مجال ومستوى وعلى اكثر من صعيد.
عملية القدس الأخيرة ضربت على وترين هامين، الأول: هو وتر المبدأ، المبدأ الذي يبيح لكل من هو تحت الاحتلال مقاومته بكل الوسائل الممكنة والمتاحة. هذا المبدأ لم يخترعه الفلسطينيون لأنفسهم او لغيرهم، بل هو مبدأ عالمي كوني تعترف به كل المؤسسات والهيئات الدولية وتقره كل الأعراف والمواثيق. والفلسطينيون شعب يقبع تحت نير احتلال استيطاني عنصري، بل هو حالة الاحتلال الوحيدة الباقية في العالم، وله كل الحق بأخذ هذا المبدأ بيده وان يخوض على هديه مقاومة مشروعة بكل الوسائل المتاحة.
أما الوتر الثاني: فهو وتر مشاعر الناس وكراماتها الوطنية والشخصية. فلا يتوقعنّ احد، وبالأحرى لا يتوهم، أن أناسا تحت احتلال طال واستشرى، يمكن ان يستمروا يتلقون الصفعات والإهانات، تداس كراماتهم وتسلب أراضيهم ومعها حرياتهم وتدنس مقدساتهم، ان يستمروا في إدارة خدهم الأيسر الى اجل غير مسمى. حتى السيد المسيح عليه السلام لم يكن ليقبل بذلك ولا يمكن أن يدعو له في حالات كهذه.
في لحظة ما وظرف ما، لا بد ان تؤخذ حالة الناس من حيث مشاعرهم وكراماتهم وقناعاتهم ودرجة استعدادهم وتقبلهم ومستوى القهر الذي يقع عليهم وقدرتهم على الصبر وضبط النفس، لا بد ان تؤخذ على قدم المساواة مع اي جهد وطني يبذل بإخلاص وبدوافع وقناعات وطنية صادقة، سواء كان هذا الجهد تحركا سياسيا أو التزامات رسمية، او من اي نوع آخر. بل ان حالة الناس في ظروف وأوضاع محددة، مثل التي يعيشها الفلسطينيون الآن، تتقدم وتكون لها الأولوية على أي جهود أو التزامات.
فالناس هم الأصل والأساس، هم أصحاب الحق، وهم وقود النضال ضد الاحتلال وزيته وناره المقدسة التي لا يجب أن تنطفئ تحت اي ظرف أو أي سبب حتى يزول الاحتلال.
وإذا كانت بعض التقديرات تقول بان اختيار الهدف في واحدة من المرات، لا ينسجم تماما مع واقع سياسي أو خطة او رؤية بعينها، ولا يأتي على مقاسه بالضبط، فيجب ألا يعني ذلك تخطئة العمل النضالي وتخطئة اختيار الهدف وتوقيته، فليس دائما يكون الهدف الملائم والمنسجم تماما مع ما ذكر متاحا وبمتناول اليد. المهم ان الهدف يأتي في سياق مبدأ حق مقاومة الاحتلال، ثم أليس العدو المحتل نفسه هو من بدأ بالاعتداء على نفس النوع من الأهداف في مرات كثيرة وقبل سنوات عدة ودون اي عقاب او حساب؟
واذا كان صحيحا وضروريا اخذ قناعات ومواقف "الآخرين" بالاعتبار، فلا يجب ان ننحكم لذلك كليا، ولا ان تكون لها الأولوية دائما. فكثير من أولئك " الآخرين" والمتنفذين والمؤثرين منهم، يضعون قواعد ومبادئ وشروط صحيحة، ولكنهم ينامون عنها في الغالب او يجدون لمخترقيها المبررات. لكنهم في مرات اخرى، بالذات حين يتعلق الأمر بمصالح دولة الاحتلال وامنها، تستيقظ حواسهم ومشاعرهم مرهفة وحادة وتصحو قواعدهم ومبادؤهم، وذلك لغرض في نفس يعقوب وبدافع من انحيازات مسبقة وحسابات تقوم على المصالح، وهي على طلاق بائن مع المبادئ والقواعد، ومع الأخلاق أيضا.
والقهر حينما يمتلئ خزانه بالاعتداءات والبطش وسلب الأرض كما الحقوق والحريات وتدنيس المقدسات وكتم الأنفاس حتى الخنق و..و.. فلا بد له أن ينفجر. وعندها لا يسأل المقهور عن انفجار خزان قهره، ولا كيف حصل الانفجار ولا باي اتجاه ذهب.
عندها يسأل عن ذلك من أوصل هذا الإنسان الى حالة الانفجار، ويسأل أيضا من وقف يتفرج لا يمد يدا تنقذ المقهور ولا يدا توقف القاهر. وفي هذه الحالة المحددة فان دولة الاحتلال هي من يجب ان تسأل أولاً، ومعها الدول والقوى النافذة بالمجتمع الدولي، فهما من أوصل الأمور إلى عملية القدس وما سبقها وما يمكن أن يلحقها.
هذه العملية وأخواتها، سيكون لها تداعيات وردود فعل كثيرة.
أول هذه التداعيات ظهرت فعلا وأطلقها نتنياهو باللغة التي لا يعرف سواها : تهديدات نارية بإجراءات عقابية استثنائية في قسوتها، إطلاق حملة تسليح للمستوطنين للقيام بمزيد من الإعدامات الميدانية لكل فلسطيني يتظاهر محتجا على ممارسات الاحتلال التوسعية والعدوانية، واتهامات تهديدية تطال الكل، وأولهم الرئيس عباس. وثانية التداعيات، تطل برأسها بقوة وتقدم، وهي انتفاضة شعبية تغطي كل الأراضي الفلسطينية، تغذي تقدمها بقوة الإجراءات القمعية لدولة العدو وتدفع بقوة الى قيامها.
فهل تكون ثالثة التداعيات جهدا جادا ومخلصا لاستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية تنفيذاً أميناً للاتفاقات المقرة؟
وهل تكون رابعة التداعيات صحوة للقوى الدولية، والدول المتنفذة منها بالذات، لعمل واجراءات جادة ضد دولة الاحتلال تجبرها على إنهاء احتلالها؟


