بين أغنية "بشرة خير" بالعبرية التي تتوعد بقتل كل يهودي على أرض فلسطين التاريخية وعملية القتل التي نفذها شابان من القدس في كنيس يهودي خط واضح: كلاهما يأتيان في سياق الشعور العام بضرورة الانتقام من دولة الاحتلال التي ارتكبت جرائم بشعة في حربها على غزة والتي تقوم بممارسة عنف وجرائم منظمة ضد الفلسطينيين في الضفة.
السياق الذي تمت فيه عملية الكنيس اليهودي مفهوم. لقد سبقها خنق سائق الحافلة، ابن القدس، يوسف الرموني، والتي أعلنت إسرائيل أنه قام بالانتحار للتغطية على العصابات الإسرائيلية التي قامت بقتله. وسبقها مواجهات مستمرة الى اليوم أشعلها حرق الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير حياً. وهي تأتي في السياق العام الذي يواجهه أهل القدس من حرمانهم من البناء، ومصادرة هوياتهم، والاستيلاء على بيوتهم، ومصادرة أراضيهم، والتضييق عليهم حتى في الوصول الى المسجد الأقصى للصلاة.
السياق العام الذي تجري فيه هذه الأحداث يتمثل أيضاً في فشل المفاوضات في إنهاء الاحتلال وفي انعدام الأمل بالقدرة على إنهائه بوسائل سياسية سلمية. عدم طرح منظمة التحرير الفلسطينية لبديل عملي لإنهاء الاحتلال ترك الساحة الفلسطينية مفتوحة لمبادرات فردية تجتهد لخلق بديل لمواجهة الاحتلال. هؤلاء الأفراد لا يفكرون في الأبعاد الإستراتيجية لما يقومون به لأن ما يحركهم هو الرغبة في الرد على جرائم الاحتلال حتى لو كان هذا الرد هو عمليات قتل لمدنيين إسرائيليين وداخل مكان للعبادة وفي القدس الغربية.
أن نتفهم المناخ العام الذي يدفع أفراداً من الشعب الفلسطيني لأخذ المبادرة بأيديهم للانتقام لا يعني إعطاء المشروعية لهذه العمليات.
المسألة ليست فقط أخلاقية. بمعنى أن الضحية يجب أن تتفوق على جلادها في آدميتها. ولكن أيضاً في حقيقة أنها ضحية لأنها لا تقوم بنفس الأفعال التي يقوم بها المحتل. إذا اختفى الفارق بين الضحية والجلاد في السلوك العملي يختفي معه بالتعريف مفهوم الضحية. الفارق بين من هو واقع تحت الاحتلال وبين من يمارس الاحتلال يبقى قائماً وحق الطرف الأول بالمقاومة يبقى موجوداً. لكن في حالة اللجوء إلى سياسة "القتل الأعمى" من جانب الضحية فإن هذا الفارق الذي ترتكز عليه مشروعية المقاومة يبدأ بالاختفاء، على الأقل في المشهد الإعلامي، ليحل محله التركيز على "بشاعة" ما يجري وليس على سببه الرئيس وهو وجود الاحتلال.
سأعطي مقاربتين لتوضيح ما أقول: الأولى من سورية والثانية من فلسطين.
بقيت "الثورة" المسلحة أو هكذا سماها الإعلام عملاً مشروعاً ضد نظام الأسد في سورية حتى قبل انضمام ثلثي الشعب السوري لها لأسباب عديدة منها الرغبة بالخلاص من النظام السوري لأسباب سياسية ومنها بالطبع أنه نظام مستبد لم يختاره السوريون بإرادتهم، ومنها وحشية رد النظام على معارضيه خصوصاً في بداية الأزمة في درعا. لكن عندما بدأت مشاهد القتل الوحشية والإعدامات الجماعية التي تقوم بها عصابات جماعات القاعدة في سورية تخرج للعلن، لم تعد وحشية النظام أو شرعية وجوده هي المسألة. اليوم نظام الأسد أصبح جزء من معركه كبرى تجري في سورية والعراق لمحاربة الإرهاب. حتى الدول التي فتحت حدودها لجماعات القاعدة وحرضت على الصراع الطائفي أدركت اليوم أنها ارتكبت جريمة في حق نفسها لأن هذه الجماعات ستستهدفها عند أول فرصة تتاح لها. لهذا نراها اليوم تكثر الحديث عن خطر هذه الجماعات بعد أن كانت سياساتها مبنية على إسقاط نظام بشار.
في المشهد الفلسطيني الفارق بين الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية كبير. الأولى دفعت العالم جميعه لتفهم عدالة ومشروعية النضال الفلسطيني وخلقت حلفاء للقضية الفلسطينية في كل مكان. صورة الفلسطيني الأعزل الذي يقاوم جيشاً مدججاً بالسلاح بالحجارة والذي رافقه سياسة القبول بحل الدولتين على أرض فلسطين التاريخية كسرت الصورة التي حاول الاحتلال ترسيخها عالمياً بأن منظمة التحرير هي منظمة إرهابية هدفها القضاء على إسرائيل. التعاطف الذي حصل عليه الشعب الفلسطيني قبل أكثر من عقدين من الزمان هو مصدر التضامن مع القضية الفلسطينية اليوم. الانتفاضة الفلسطينية الثانية بلا شك ألحقت ضرراً بالقضية الفلسطينية ليس بسبب طابعها المسلح، ولكن بسبب العمليات الانتحارية التي رافقتها والتي استهدفت مدنيين إسرائيليين. مشاهد تفجير الباصات والمقاهي لم تترك هامشاً لحلفاء القضية الفلسطينية للدفاع عنها. أكثر ما كان بإمكانهم قوله هو إدانة قتل المدنيين من الجانبين. لكن ماذا تقدم للشعب الفلسطيني هذه المساواة في الإدانة؟ ببساطة لا شيء. هي على الأكثر تقول إن من يقوم بقتل المدنيين ليس طرفاً واحداً يمكن الإشارة له ولكن طرفي الصراع. لكن ما تحتاجه القضية الفلسطينية هو تحميل الاحتلال بصفة دائمة مسؤولية ما يجري في الضفة والقدس وغزة وهذا لا توفره عمليات تستهدف مدنيين إسرائيليين.
على ضرورته، الحل لا يكمن في إدانة هذا الشكل من المقاومة لأن من يقوم بها أفراد لا يكترثون بما تقوله قيادة السلطة في المقاطعة أو لرأي صاحب المقال. الحل يكمن في أن يأخذ قادة التنظيمات الفلسطينية وقيادة السلطة مسؤوليتهم الحقيقية في طرح حلول عملية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وهو ما لم يحدث إلى اليوم.


