قد تأخرت كثيراً ولم تعد تنفع الحلول الترقيعية التي حملها وزير الخارجية الأميركية، إلى عمان الأسبوع الماضي، خصوصاً في ضوء إصرار الحكومة الإسرائيلية على حسم معركة القدس، وهي معركة مفتوحة منذ سنوات. ربما لم يكن كيري ليتكلف القيام بزيارة خاصة لولا تفاقم الأوضاع إلى الحد الذي سيؤثر سلباً على اتفاقية وادي عربة، بعد أن أقدم الأردن على استدعاء سفيره من تل أبيب، الأمر الذي كان سيشكل بداية تصعيد في نشاط الحركة السياسية الأردنية لدفع النظام نحو اتخاذ المزيد من الخطوات الاحتجاجية على السياسة الإسرائيلية.
ويبدو أيضاً، أن لدى كيري بعض الأمل، في أن يقنع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بمعاودة المفاوضات، ما يستدعي منع تدهور الأوضاع في القدس والضفة الغربية عموماً.
تدرك الإدارة الأميركية، أن تصعيد الأوضاع في القدس، وإضفاء الطابع الديني عليها، يلحق ضرراً بليغاً، بالتحالف الذي تقوده ضد تنظيم الدولة الإسلامية وأخواتها في المنطقة، إذ سيكون محرجاً للدول العربية الشريكة، أن تواصل العمل في إطار هذا التحالف، فيما إسرائيل تشن حربها ضد اهم المعالم الإسلامية بعد مكة. وربما كانت إسرائيل من خلال معركة القدس تبحث عن طريق لإرغام الولايات المتحدة، وتحالفها الدولي، على أن تجد لها مكاناً ودوراً في هذا التحالف.
المعركة في القدس وعليها ليست بالنسبة للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي معركة تكتيكية، فهي بالنسبة لإسرائيل العاصمة الأبدية الموحدة كما تدعي وهي عاصمة الدولة الفلسطينية وقلبها بالنسبة للفلسطينيين، ولذلك فإن استمرار المخططات الإسرائيلية فيها، يشكل صاعق تفجير لكل الأوضاع ليس في فلسطين فقط وإنما في المنطقة.
قد تتوهم إسرائيل أن بإمكانها تحقيق تقدم كبير في مخططاتها تجاه القدس، في ظل الأوضاع العربية المتردية، وتجاهل الدول الإسلامية وضعف وتراجع دور الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، لكنها تخطئ كثيراً، إن لم تأخذ بعين الاعتبار، أن هذا الوضع قد ينقلب عليها رأساً على عقب، حين تصل الأمور إلى مرحلة الحسم.
وحتى الآن، وبالرغم من احتدام الصراع في القدس، واستمرار المجابهات والتصعيد الجاري من جانب إسرائيل، ويقابله ردود فعل فلسطينية شعبية، نقول حتى الآن، فإن المجابهة الفلسطينية لا تزال محدودة ذلك أنهم يملكون الكثير مما يكلف إسرائيل أثماناً باهظة.
أوضاع القدس، من شأنها أن تؤدي إلى اندلاع انتفاضة عارمة في كل الضفة الغربية، وأن تحرك الفلسطينيين في إسرائيل نحو الاستجابة بانتفاضة تشبه انتفاضة يوم الأرض. وعلى المستوى السياسي من شأن التصعيد في القدس أن يدفع القيادة الفلسطينية نحو اتخاذ خطوات تصعيدية إزاء العلاقة مع إسرائيل، وعلى صعيد المجتمع الدولي الذي يعبر يوماً بعد الآخر عن غضبه تجاه ما تقوم به ويهدد مصالح الكثير من حلفائها في المنطقة.
كان معلوماً أن الحلول الترقيعية التي حملها كيري، ودعمها وزير الخارجية الألماني لن تجدي نفعاً، وأنها مؤقتة، طالما أن نتنياهو يتجرأ، بأن يعلن أن لا أفق لعملية سلام، ويتهم السلطة والرئيس محمود عباس بالتحريض على ما يسميه الإرهاب.
يصر نتنياهو على ممارسة الكذب، والتضليل رغم أن رئيس جهاز الشاباك ينفي عن الرئيس عباس، والسلطة، الاتهامات التي يوجهها رئيس حكومته. الغريب أن الولايات المتحدة التي سارعت الى إدانة العملية التي وقعت ضد الكنيس اليهودي، وأدت إلى مقتل أربعة وإصابة تسعة بينما لم تنبس ببنت شفة إزاء جريمة شنق سائق الحافلة، والولايات المتحدة لم تنبس ببنت شفة إزاء الاقتحامات المتواصلة للمستوطنين والمتطرفين الذين يدنسون الحرم القدسي. فإذا كان الأمر يتعلق بحرمة الأماكن الدينية المقدسة، وحرية الأديان فإنه كان من الحري بالولايات المتحدة أن تدين الجرائم الإسرائيلية بحق المسجد الأقصى، وقبله المسجد الإبراهيمي وبين هذا وذاك اقتحام وحرق المساجد والإساءة للإسلام والمسلمين. إسرائيل تستخدم في معركة القدس الأسلحة النارية، والقمع، والاعتقال ونسف البيوت، ولا يروق للولايات المتحدة أن تتقبل استخدام أي فلسطيني لما يتوفر من أسلحة تنتمي إلى وسائل المقاومة الشعبية. وإذا كان من غير المناسب للفلسطينيين استخدام الأسلحة النارية في هذه الفترة، بالرغم من أن وثائق الأمم المتحدة تجيز للشعوب المحتلة أراضيها، والقدس أرض محتلة، بأن يقاوموا الاحتلال بما في ذلك من خلال الكفاح المسلح، فإن قرار وزير الداخلية الإسرائيلي بتسهيل حمل السلاح للمستوطنين بادعاء الدفاع عن النفس، من شأنه أن يدفع الفلسطينيين أو يجبرهم على استخدام السلاح. قرار الداخلية الإسرائيلية يؤشر إلى مرحلة جديدة حيث من المتوقع أن يبادر المستوطنون بتشكيل أذرع مسلحة، ونحو تصعيد دورهم في الاعتداء على الفلسطينيين وممتلكاتهم. على كل حال لم يتبق وقت طويل أمام الإدارة الأميركية، حتى تجرب حظها من جديد مع حكومة نتنياهو، غير أنها لن تفعل سوى أن تعطيه المزيد من الوقت لتكريس المزيد من الوقائع الاحتلالية، والتي تفتح على توسع دائرة ووسائل الاشتباك والصراع بما سيؤثر سلبياً على مصالحها ومصالح الدول الغربية في هذه المنطقة المضطربة.
طلال عوكل


