كان كل شيء مُعَداً بإحكام، خطة مدروسة بدقة متناهية، لا مجال للخطأ، يدخل القاتل إلى الحرم الإبراهيمي، أثناء صلاة الفجر، حاملاً بندقيته الآلية ومزوداً بعدد كبير من القنابل، والأهم، أنه كان يحمل كل ما في الأرض من حقد دفين، وفي لحظات سقط 29 مصلياً كانوا أثناء السجود، ونزف 150 منهم الكثير من الدماء وباتوا في عداد الجرحى، حيث بعضهم في حال من الخطر الشديد، خطة مدروسة بعناية، فعندما حاول بعض المصلين الهرب، وجدوا أن باب الحرم الإبراهيمي كان مغلقاً، جنود الاحتلال الذين قاموا بإغلاق أبواب الحرم، هم أنفسهم من منعوا سيارات الإسعاف من الاقتراب لإنقاذ الجرحى.
كان ذلك قبل أكثر من عشرين عاما، وتحديداً في 25/2/1994، أما القاتل فهو يهودي أميركي يدعى باروخ غولدشتاين، الذي قدم إلى إسرائيل عام 1980، وأقام في مستوطنة "كريات أربع" المقامة على أراضي مدينة الخليل المحتلة، هذا القاتل كان طبيباً في الأصل، ولكن وأثناء عمله كطبيب في جيش الاحتلال، كان يرفض أن يعالج من هم من غير اليهود، حتى أولئك من المتطوعين الأوروبيين والدروز العرب العاملين في جيش الاحتلال.. هل يمكن مقارنة هذا الحقد، بأي حقد آخر؟!
المستوطنون، صنعوا وأقاموا تمثالاً لغولدشتاين، وهم يحيون بالأفراح وتبادل المشروبات "الحلال" كل عام في ذكرى المجزرة. الحاخام اليهودي موشي ليفنغر، أجاب على سؤال حول ما جرى بالقول: إن مقتل العربي يؤسفني بالقدر الذي يؤسفني مقتل ذبابة [كما جاء في كتاب إسرائيل شاحاك "الشريعة اليهودية"] والكاتب المشار إليه، كتب يقول إن الشريعة اليهودية "هالاخا" تطالب في الحقيقة كل يهودي القيام بنفس ما قام به غولدشتاين، ولدعم ما يقول اقتطف الكاتب كلمات الحاخام دوف ليور الذي وصف فيها غولدشتاين بالمؤمن التقي وأن ما فعله إنما كان بأمر الرب وباسمه!!
رغم هذه المجزرة، وبسببها، أيضاً، قامت سلطات الاحتلال بتقسيم الحرم الإبراهيمي زمنياً ومكانياً بين المسلمين واليهود، وبات للمتدينين اليهود، خاصة من مستوطني "كريات أربع" "كنيس" في الحرم الإبراهيمي أحد أهم أماكن العبادة للمسلمين عبر التاريخ.
هذه الأيام، تكاد مجزرة غولدشتاين تتكرر ولكن بأساليب أخرى، اقتحامات المتدينين المتطرفين اليهود للمسجد الأقصى، وبشكل متكرر، وبحماية من جنود الاحتلال، تترافق مع إعلان حكومة نتنياهو التوجه إلى الكنيست للموافقة وإقرار مشروع لتقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً، بالضبط كما حدث في الحرم الإبراهيمي، وكما اتخذت المجزرة التي ارتكبها غولدشتاين في الخليل، مبرراً لتقسيم الحرم، تتخذ حكومة نتنياهو من هجمات المتطرفين اليهود مبرراً لتقسيم المسجد الأقصى.
كل ذلك يجري بالتوازي مع إصرار إسرائيلي "مستحدث" بضرورة أن يعترف الجانب الفلسطيني بإسرائيل كدولة اليهود، في الوقت الذي تستعد حكومة نتنياهو لطرح هوية الدولة على الكنيست، وبحيث تعتبر إسرائيل دولة "يهودية ديمقراطية" وكأنما للديمقراطية دين، دين واحد، هي اليهودية في العرف الإسرائيلي!!
وبين مجزرة الحرم الإبراهيمي قبل ما يزيد على عشرين عاماً، وما يجري اليوم، هناك العديد من "المجازر الصغيرة" خاصة في العاصمة الفلسطينية القدس المحتلة، إضافة إلى عمليات الملاحقة الدائمة للنشطاء من الفلسطينيين وإنذار 20 ألف عائلة مقدسية بهدم بيوتهم بحجة أنها بنيت دون ترخيص، في محاولة جادة للتخلص من المواطنين العرب في القدس الشرقية التي هي عاصمة الدولة الفلسطينية المنتظرة.
دولة اليهود، كما يراها رئيس الحكومة الإسرائيلية، هي دولة نقية لا يجب أن يقطنها من هم من غير اليهود، الطابع الديني لهذا المسمى، هو وراء تخوف الرئيس محمود عباس من الإجراءات الإسرائيلية التي ستؤدي إلى "حرب دينية" هذه الحرب يسعى لها نتنياهو وحكومته بلا كلل أو ملل. إن التصدي لهذه الحرب، مهمة وطنية فلسطينية، فصراعنا مع الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي هو صراع سياسي ذو طابع قومي بالدرجة الأولى، شعب له هويته القومية، وسكان احتلوا الأرض بعدما قدِمُوا من كل أصقاع الدنيا، بلا هوية سوى الهوية الدينية.
وفي ظل هذه الأوضاع المتفجرة والمستفزة من جانب الاحتلال الإسرائيلي، فإن الفلسطينيين مع انعدام الخيارات السياسية على ضوء فشل العملية التفاوضية، واستمرار تهويد العاصمة الفلسطينية وكافة مناطق الضفة الغربية المحتلة من خلال الاستيطان، الفلسطينيون لا يجدون أمامهم سوى مواجهة هذا الاحتلال بكل ما لديهم من قوة وبأس، وعملية القدس تأتي في هذا السياق الذي يتحمل مسؤولية تبعاته نتنياهو وحكومته الفاشية.
Hanihabib272@hotmail.com
هاني حبيب


