بعد أسابيع قليلة تحل الذكرى الخمسون لانطلاقة حركة فتح، وحيث أن المناسبة تبدأ عادة مع العام الجديد، وتلي مناسبة انطلاقة كل من الجبهة الشعبية وحركة "حماس" وتسبق انطلاقة الديمقراطية، فإنها تشكل عادة مناسبة للمراجعة الوطنية، خاصة وان "فتح" ما زالت هي أكبر فصيل وطني فلسطيني، وهي التي قادت كفاحه على مدار العقود الخمسة الماضية.
في ذكرى اليوبيل الذهبي لحركة فتح، لا بد من الإقرار بأن الكفاح الوطني الذي قدم خلاله الشعب الفلسطيني عشرات آلاف الشهداء ومئات آلاف الجرحى، كذلك آلاف الأسرى، وضمن عشرات فصائل العمل الوطني، وخاض خلاله ثورة مسلحة، تخللتها عشرات المعارك الباسلة، من الكرامة إلى اجتياح لبنان عام 1978 _ وعام 1982، كذلك انتفاضتان شعبيتان، كما لم يفعل شعب آخر من قبل، يمكن القول بأنه يسجل للشعب وللفصائل ولقيادة "فتح" لهذا الكفاح انجازات هامة، ربما في مقدمتها، أحياء القضية الفلسطينية ووضعها على خارطة التداول السياسي الدولي على مدار العقود الخمسة الماضية، لكن مقابل ذلك لابد من الاعتراف بأنه رغم أن هذا الكفاح جنب الفلسطينيين رفع الراية البيضاء، أو التحول إلى شعب موزع على شعوب المنطقة، يمكن في أحسن الأحوال التعامل معه كقضية إنسانية، إلا انه يمكن أيضا القول، بان الكفاح الوطني عجز، خلال ست وأربعين سنة عن تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 67، رغم الاعتراف الدولي بها كمناطق محتلة ورغم الإعلان الفلسطيني منذ عام 1974 عن كون تحريرها إنما هو الهدف الرئيسي للكفاح الوطني .
أقل ما يقال لحركة فتح بهذه المناسبة، بأنه عليها أن تقوم بإصلاح ذاتها، وتجديد هياكلها وتنظيمها، فضلا عن برنامجها السياسي، حتى تظل مؤهلة لقيادة الشعب الفلسطيني، في ظروف دولية وإقليمية مختلفة عن تلك التي انطلقت في ظلها قبل خمسين سنة، وهذا في أحسن الأحوال، مع انه لا احد يضمن أن تكون عملية التجديد والإصلاح كافية أو قادرة على إعادة تأهيل الحركة لتلك المهمة، أما في أسوأ الأحوال، فقد تقتضي الضرورة الإعلان عن حل الحركة، ومن ثم دعوة كوادرها وعناصرها لتشكيل حركة، جبهة أو حزب جديد، ينطلق من اللحظة الراهنة ولا يظل أسير الماضي البعيد حتى لو كان مجيدا أو تليدا.
لا بد من القول بأن آخر مهمة نوعية قامت حركة فتح بانجازها، هي السلطة الفلسطينية، قبل عشرين سنة، وفعلت ذلك على اثر اتفاقات أوسلو، وكمشروع لإقامة الدولة المستقلة، وليس بالمطلق كبديل عنها، أو لها، وحيث انه مضت عشرون سنة دون تحقيق ذلك، فلا بد من التوقف عند هذه النقطة مليا، والعودة إلى تراث حركة فتح الداخلي، الذي ربما كان ينسجم مع الثقافة السياسية العامة في المنطقة، حيث كانت الدول العربية محكومة من قبل أنظمة حكم الفرد، والحزب الواحد، وكان حال "فتح" قريبا جدا من أحوال الأنظمة العربية، وبالتحديد تلك الأنظمة ذات التوجهات القومية والتي تقيم جبهات داخلية، لا تكون فيها مشاركة الأحزاب ( في حالتنا الفصائل ) مقررة، بل في أحسن أحوالها ناقدة، وداعمة، وإن لم تكن مؤيدة فهي معترضة، ولا تقوى على تداول السلطة.
في أول محاولة لتداول السلطة، وعقد الشراكة السياسية مع حركة حماس، فشلت المحاولة، وحيث انه قد مضت أيضا نحو عشر سنوات على اتفاقية القاهرة، التي تم فيها الاتفاق على تلك الشراكة، فان التجربة كانت مريرة، وفشلت فشلا ذريعا، حيث وصلت بعد ثلاثة أعوام، في عام 2007 على حد الاقتتال الداخلي والانقسام بين حركتي "فتح" و"حماس" .
وخلال أكثر من سبع سنوات، عجزت الحركتان عن التوصل لحل يضع حدا للانقسام، رغم عشرات جولات التفاوض ورغم العديد من الاتفاقيات، ورغم رعاية أكثر من بلد عربي، كان منها السعودية، اليمن، قطر، سورية ومصر، وحتى إيران وتركيا، حيث استمرت حالة عض الأصابع بينهما، فحين تكون الظروف مواتية لحركة فتح، تتلكأ في الاستجابة للمصالحة، وحين تكون الظروف مواتية لحركة حماس تتردد في الاستجابة لإنهاء الانقسام .
رغم كل ما يمكن أن يقال على حركة حماس، فان مسؤولية القيادة الفلسطينية إنما هي منوطة بحركة فتح، وفي آخر فصول المصالحة، أي بعد "إعلان الشاطئ" قبل نحو ستة شهور، يمكن القول بأن "حماس" تتردد في تسليم الحكم في قطاع غزة فعليا لحكومة التوافق، وأنها بلعت الطعم من قبل بتفضيل التوافق الثنائي على الوفاق الوطني، وأنها _ أي حركة حماس _ حين تعترض على سلطة "فتح" فإنها تلجأ إلى الضغط بأدوات خارجية أو عبر القوة والإكراه، بما في ذلك جعل غزة وشعبها رهينة حكمها والانقسام، كذلك هي حركة ليس في قاموسها الكفاح الشعبي / الديمقراطي، فهي _ مثلا لا تلجأ إلى إخراج المظاهرات الشعبية للاعتراض على سياسة السلطة، أو من أجل المطالبة بمطالب نقابية أو معيشية محددة، لكن لا بد من القول بأن حركة فتح والسلطة لم تقرن مرسوم تشكيل الحكومة بمرسوم يحدد موعد الانتخابات، كذلك لم تتبع تشكيل حكومة التوافق بتفعيل المجلس التشريعي ولا الإطار القيادي لـ "م ت ف".
و"فتح" تخشى الانتخابات، مثل "حماس" وأكثر، فالأولى لا تجمع على مرشح رئاسي، في الوقت الذي سيبدو عليه صعبا أمر إعادة ترشيح الرئيس محمود عباس وهو الذي أكد انه لن يرشح نفسه لدواعي التقدم في السن، في حين تخشى "حماس" الانتخابات، لأنها ستفقد الأغلبية التشريعية، كما أن من شأن إجراء الانتخابات تقوية المستوى السياسي على العسكري، وتعبيد الطريق أمام الكفاح السياسي أكثر مما تسميه المقاومة. هكذا تستمر لعبة عض الأصابع بين الحركتين، فيما الشعب الفلسطيني يتقلب في مقلاة السياسة التنافسية حتى لا نقول التناحرية بين أكبر فصيلين يقودانه، ربما ليس إلى الهاوية، ولكن _ بهذا الشكل _ إلى مزيد من انتظار لحظة الانعتاق من أطول وأسوأ احتلال على وجه الأرض.
Rajab22@hotmail.com


