يسأل مقدم البرنامج السياسي في الفضائية شبه الرسمية ضيفه، بما يشبه اكتشافاً يصعب صده من قبل "ضحيته" التي استدرجها الى الاستوديو:
هل ستحدث انتفاضة ؟
الضحية لا يرتبك كما توقع المذيع، لم يترنح ولم يؤخذ على حين غرة، بدا متماسكاً وأومأ برأسه قبل أن ينظر الى أعلى، الى سقف غير مرئي يتجاوز سقف الاستوديو نحو فضاء سماوي، في اشارة واضحة على الاستغراق في التفكير، قال الضحية، الذي نحن ضحيته بطريقة ما:
الظروف ناضجة للانفجار، لم يبق سوى إشعال الفتيل.
كان نطقه بطيئاً، ومخارج حروفه واضحة، ونظرته غائمة، كمن يلقي بنبوءة ليست ملكه أو من صناعته، نبوءة حدثت وهي تهبط في طريقها للتنفيذ، بينما دوره لا يتعدى ترجمتها ونقلها بأمانة رسول.
يكاد يكون هذا الحوار نقلا أمينا لمشهد يومي بصري وسمعي ومكتوب.
ثمة انتفاضة ستحدث وثمة فتيل جاهز للاشتعال، وثمة متنبئين في كل مكان يجمعون حطب تحليلاتهم ورغباتهم ومخيلاتهم، يواصلون التحديق في الأعلى بانتظار نبوءات سماوية ليلقوها على طاولة السؤال البسيط.
الانتفاضة التي تم رسمها وانجازها ومقارناتها، الانتفاضة القادمة من برامج الفصيل ومخيلته، والقادمة من ماضي الأشخاص والفصائل والقوى بما يشبه حنينا ساذجا ومكررا، الفتيل الممدود من هذا الماضي الممتلئ بأحلام الانفلات والعسكرة البلاغية ومصادرة دور الناس وشراكة الحارات والبيوت.. لن تحدث.
الانتفاضة بمواصفات الفصيل الذي يحلم بتسلقها والقفز عبرها على المنجز الوطني ووعي الناس وذاكرتهم، لن تحدث.
ثمة استعلاء مثير للشفقة على ما يفعله الناس على الأرض خارج أحلام مصادرة جهد الناس ومقاومتهم، عندما يجري تجاهل ما يحدث والحديث عن "انتفاضة" قادمة، بينما هي "الانتفاضة" تسعى على الأرض، حية وذكية وعميقة.
يتظاهر الشبان في شوارع القدس وأحيائها، ويندفعون بأجسادهم من سلوان حتى مخيم شعفاط وعناتا والرام مروراً بالأحياء القديمة الضيقة للعاصمة.
تصلي نساء القدس على عتبات الأقصى والشوارع المحيطة به وتلك المؤدية إليه، ويبتكر الفتيان أساليب مواجهة جديدة في كل ليلة.
تتدفق المظاهرة عبر الجدار نحو مطار قلنديا، الجدار الذي فتحوا ثغرات في جسده المتسلط، في رسالة واضحة للعالم وهو يحتفل بذكرى هدم جدار برلين.
أشياء كثيرة تحدث خارج الاستوديو الذي يجلس فيه الرجلان، خارج السؤال خارج الاجتماع الفصائلي وخارج النبوءة.
غسان زقطان


