شعرنا الأسبوع الماضي أن صبرنا بدا كما لو أنه نفد، او ربما بنوع من الضجر أو الملل أو الغضب جراء هذه العودة او الانتكاسة المفاجئة لحالة التعافي التي ظننا لوقت قريب أننا دخلنا في طورها، بعد سنوات سبع عجاف من مرض الانقسام. ولكن فجأة هكذا ومن دون سابق إنذار سُمع أولاً صوت الانفجارات ثم تلا ذلك وكما يحدث في الفصل الثالث من المآسي المسرحية، صوت التراشق بالرصاص الكلامي او الإعلامي، حتى ظننا مرة أُخرى وفي لحظة من تكدر النفس واليأس، أن الانكسار الذي حدث لا يمكن إعادة إصلاحه بنفس السهولة التي حدث فيها الهدم، وانه لا جدوى او أمل او فائدة ترجى من وراء كل ذلك.
وحيث الهدم أسهل من إعادة البناء وان إزالة هذا الكسر من النفوس هو أصعب مئة مرة من إزالة عوارضه الخارجية والشكلية على المستوى السياسي، اذا كنا سنجد في اللغة وهي أداة التفكير، ما يؤشر الى هذه الحقيقة في واقع أن الانتقال السريع الى استدعاء كل مفردات الخطابة التشاجرية ما يجسد هذه الحقيقة من ان المصالحة لا تزال تنتظر علاجا سحريا في المكان العميق وغير المرئي، غالبا الذي لا زال الخلاف او الانقسام او التناقض يمسك منه وفيه بتلابيب كلا الطرفين وبنا جميعاً.
ومن المؤسف ان ذلك قد حدث كنوع من إلقاء "دش" ماء بارد علينا، بينما كنا نستعد لمناسبة عزيزة على قلوبنا جميعا هي الاحتفاء بالذكرى العاشرة لرحيل ياسر عرفات في غزة للمرة الأولى، غزة التي كانت موطئ قدمه الأول عند عودته الى الوطن كما كانت موطئ دخوله الأول إليها سرا العام 1967 لإنشاء قاعدة للفدائيين فيها. وأما المناسبة الثانية التي تعكس فداحة التوقيت أيضا، فإن ذلك حدث بصورة غير متوقعة بعد حرب ضروس خاضتها غزة وانتصرت فيها. وكم كان جميلاً أن يتوج انتصار هذه المدينة البطلة ولكن المسكينة، والتي لا تستحق كل هذا النكران بكل هذا الجمع الوحدوي للاحتفاء الجمعي لعرفات، غريكو وروميلوس وسيمون دي بوليفار الفلسطينيين. وحتى وان حرمه الأعداء ان يراه حياً، وقد كان عرفات هو الأب الحقيقي والملهم والروحي للمقاومة، وكان هذا نصرا للمقاومة والتي هي بالمناسبة وبغض النظر عن اي خلاف آني او طارئ مع "حماس"، لا يمكن وصفها بالميليشيا او العصابة لان هذه المقاومة هي ارث فتح وفخرها قبل ان تولد "حماس"، وفي ذلك إهانة لـ "فتح".
وأما المناسبة الثالثة في خطأ التوقيت فإن هذه المشاجرة تحدث بينما عدونا بدأ يترنح على وقع هجوم فلسطيني نادر الحدوث ومزدوج او مركب، بهذا القدر من التناغم بل التداعم: هجوم دبلوماسي بدأ يؤتي ثماره بعزل العدو على المسرح الدولي، وهجوم آخر ميداني او ارضي في القدس فاجأ العدو واربك كل حساباته وتقديراته. وبدا كما لو انه ذروة حرب مفتوحة ومتواصلة تتبادل فيها المناطق الجغرافية الفلسطينية الأدوار منذ حزيران الماضي، وتوشك على التحول الى اشتباك اشمل على مستوى فلسطين الجغرافية، وهو ما يمثل تحولا راديكاليا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يمكن ان يهدد لاحقا بتشبيك إقليمي لا يمكن التكهن بأبعاده الآن.
في هذا الإطار الأعم لجهة التوقيت سياسياً، يمكن النظر الى هذه الانتكاسة على انها خطأ مزدوج في التقدير المتبادل، سلم الأولويات الوطني المشترك ايضا بين الطرفين معا، والذي يقتضي قدراً من الحنكة والقيادة في إدارة هذا التوازن بين التحديات المطروحة، واشتقاق وتحديد المهمات المباشرة والملموسة.
ولكن لعلني أظن او افترض ان هذا العامل الأخير هو ما شكل ضابط الإيقاع او الكابح الذي حذا بكلا الطرفين، إظهار الحرص على عدم الانزلاق او الذهاب الى ابعد من حدود السجال الكلامي او التراشق الإعلامي في هذه القضية، لإدراكها المتبادل ان تفجير المصالحة الآن انما هو انتحارهما معا، وهكذا سمعنا من الأخ عزام الأحمد كلاما قاسيا ولكنه لا يقطع او يغلق الباب، وكذا قيل أيضا عن خطاب الرئيس أبو مازن على انه نوع من المصارحة او المكاشفة بأكثر منه هجوم على "حماس".
وفي أقوال "حماس" أيضا ما يشي بنفس الموقف الاحتفاظ بخط الرجعة، حيث تتكرر بعد جميع الأقوال الصعبة نفس اللازمة عن التمسك بالمصالحة والوحدة والشراكة وحتى الدعوة الى الانتخابات غدا. اذن ما الذي حدث اذا كان احد ليس بمقدوره حتى الآن فسخ العقد وقلب الطاولة والخروج من تحت هذه المظلة، التي تم إعادة تركيبها يوم 2 حزيران الماضي في مخيم الشاطئ، قبل بدء الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الأخيرة فعلا انطلاقا من الخليل بعشرة ايام ؟.
ان ما حدث هو في التحليل الأخير نوع من توجيه الرسائل وان بصورة صاخبة، وكشأن الرسائل في مثل هذه الأوضاع او الأزمات الكامنة فإنها غالبا ما تنطوي على هذا القدر من الالتباس المقصود بذاته ولذاته، والذي يهدف الى إغفال التوقيع الصريح وان يكن هذا الإغفال المقصود وهو من قوانين اللعبة، هو الدالة أخيرا على وصول الرسالة الى العنوان او لمن يعنيهم الأمر. وأظن هنا ان ذكرى عرفات ليست هي المقصودة بحد ذاتها ولذاتها، وإنما الإخراج الاحتفالي في هذا التوقيت لعودة فتح والسلطة الفلسطينية الى غزة، وهو ما يعني تنظيم شكل التسليم والتسلم للحكم في غزة قبل تطبيق شروط هذا الانتقال وفحواه او محتواه على الارض. وهذا هو جوهر القضية ولب الموضوع.
وبقدر ما كانت الرسالة قوية واحترافية في طريقة توجيهها من دون دماء، فإن فحواها او مضمونها كان يمكن قراءته على عدة وجوه، ليس اقلها الإيحاء كذلك باللعب ولو من قبيل المناورة والتلويح بهذه المناورة على حد سواء، على النزاع داخل فتح نفسها.
وفي ظني ان خيار "حماس" الأول والأخير هو في البحث عن شروط توافقية مع الرئيس أبو مازن وفتح في رام الله، تضمن لها شراكة واضحة وملموسة ومؤثرة في إطار نظام سياسي فلسطيني جديد على انقاض الانقسام السابق، وان ما حدث هنا يمكن اعتباره أيضا نوعا من التلويح الخشن والفظ من تحت الطاولة او الحزام بالبطاقة الحمراء، من ان الذي يجري هو أمر لا يروق لـ "حماس" التي يضغط عليها في غزة بعد الحرب عاملان : سرعة تحقيق الإعمار ورواتب نحو خمسين الفاً من موظفي حكومتها. ويجب ان نفهم ثقل هذين العاملين لكي نقدر حجم الضغوط التي تثقل على ظهر "حماس"، والشكوى الحمساوية هنا هي مما تعتبره تباطؤاً او تلكؤاً من قبل السلطة المشوب بقدر من التعالي والتمييز ضدها وضد الغزيين بشكل عام، وهي ترى انها ليست في وارد قبول ذلك بأي ثمن اي مقايضة الإعمار والرواتب مقابل ترويضها او إخراجها من الحكم والنظام السياسي والشراكة.
وأظن شخصيا ان هذه المسألة يجب التعامل معها بجدية وعلى قدر من النزاهة السياسية والاستقامة، فهناك غضب في غزة وهو غضب لا يجب ان نخطئ بقراءته وهو موجه ضد الجميع، بعد ان نجحت "حماس" في تسليم الحكومة للرئيس أبو مازن. وتبدو اليوم اقدر على ممارسة المناورة من صفوف المعارضة ومن يملك القوة الوازنة اي الأمن على الأرض، وهو وضع يضع المصالحة كما غزة نفسها في صيرورة من التجاذب المنخفض الوتيرة ولكن المزعج والمقلق، والذي يدفع بالأخير الى نوع من الاعتراف بضرورة إعادة تركيب التوافق على دعائم قوية وراسخة، قوامها الشراكة على أساس من الاعتراف بالتوازنات على الأرض.
لكن هذه المقاربة للازمة والتي تتفق مع أولويات مطالب "حماس" والغزيين على حد سواء، الذين دفعوا ثمنا باهظا في الحرب الأخيرة وينتظرون من حكومة التوافق ما يخفف من معاناتهم، فأن الوجه الآخر من المسألة هي أولويات الرجل اي الرئيس ابو مازن الذي عليه يقع ثقل الضغط في إعادة ترتيب او تنسيق الأبعاد وترتيب الأولويات الفلسطينية الجامعة، وهو ينظر الى أولوية الحرب الدبلوماسية لإنهاء الاحتلال مصدراً وأباً لكل الشرور، ويضع ما يجري في القدس كما في حرب غزة كروافع لتحقيق النصر، فقد يبدو هو الآخر مضطراً الى انتهاج جانب المناورة فيما يمكن اعتباره سيراً متباطئاً او حذراً بين الغام متفجرة تستدعي هذا التركيز على الجانب الشكلي من المصالحة والشراكة او التوافق، بانتظار تمرير القطوعات الحاسمة ومنها الإعمار في غزة والقرار بمجلس الأمن الدولي بإنهاء الاحتلال، وهي المعركة الدبلوماسية برأيي التي لها ما بعدها حتى على مستوى العلاقة مع "حماس" وعودة الرئيس الى غزة وحل كل معضلات الغزيين.
وإذا اتفقنا على هذا التحليل فأنا اعتقد بالنهاية ان الطرفين محكومان، اقله على المدى المنظور والمتصل بهذه العروة الوثقى، اي الحفاظ على قدر من التوافقات والتي قد يتخللها من حين لآخر نوع من تبادل اللكمات، فهذا التوازن وهذه الشراكة الثنائية إنما في قدرها وضرورتها شيء ما من حكمة آلهة اوراك القديمة، التي اقتضت ان يكون شرط انتصار جلجامش في القضاء على وحش غابة الأرز ان يصحبه في هذه المهمة الشاقة ويرافقه نقيضه أنكيدو، اذا كنا بعد فقد البطل الأوحد عرفات لا نملك الا هذا الخيار، المضي بهذين الكتفين معا للقضاء على وحش الغابة.


