خبر : بين المقاومة الفردية والمفاوضات: ما هي الخيارات المتاحة؟ ...بقلم: محمد ياغي

الجمعة 14 نوفمبر 2014 09:59 ص / بتوقيت القدس +2GMT



حوادث "الدهس" والطعن" التي تمت في الأسبوعين الماضيين لمستوطنين وجنود ومدنيين إسرائيليين تخبرنا فقط بحقيقة واحدة وهي أن الوضع القائم في الأراضي الفلسطينية هش وغير قابل للاستمرار. في الوقت الذي تسعى فيه القيادات الفلسطينية للإجابة على سؤال ما العمل في ظل حالة الانسداد السياسي القائمة وتغول إسرائيل في القدس وبقية الأراضي الفلسطينية، فإن زمام المبادرة بدأ يفلت من يدها وسيحدد مسار الصراع مع إسرائيل أفراد لم يعودوا قادرين على احتمال الوضع القائم. إغفال هذه الحقيقة فلسطينياً قد يدفع باتجاه العودة الى بعض مظاهر المقاومة في الانتفاضة الثانية والتي ألحقت الكثير بالضرر بالقضية الفلسطينية. التعويل على التنسيق الأمني مع إسرائيل لمنع الانزلاق في هذا الاتجاه قد يستطيع إحباط عمليات مخطط لها عبر شبكات مرتبطة ببعضها، لكنه لا يستطيع التغلب على مبادرات فردية لا ينسق فيها أصحابها مع أحد.
القيادات الفلسطينية متفقة كما يبدو على أن مسار المفاوضات قد وصل الى نهايته. وهي متفقة كما يبدو بأن إسرائيل غير معنية بسلام ينهي احتلال الضفة والقدس الشرقية وحصار غزة. وهي أيضاً متفقة بأن هدف إسرائيل النهائي هو حسم مسألة القدس لصالحها وضم أكبر جزء من أراضي الضفة الى مستوطناتها. الخلاف كما يبدو يتمحور حول البدائل المتاحة للشعب الفلسطيني في ظل سقوط خيار المفاوضات.
خيار الذهاب الى الأمم المتحدة والانضمام الى المنظمات الدولية بما فيها محكمة الجنايات الدولية لا يستطيع تغيير الحقائق على الأرض. الفيتو الأميركي وهو المرجح في حالة عرض مسألة إنهاء الاحتلال على مجلس الأمن هذا الشهر سينهي الحديث في قضية تتحدث فيها السلطة منذ عام. والتوجه لمحكمة الجنايات الدولية سيحتاج إلى سنوات قبل أن يكون لهذا التوجه نتائج ملموسة. العمل مع المنظمات الدولية يجب أن يكون مكملاً لسياسات أخرى وليس بديلاً عنها.
هذه السياسات تتمحور حول أربعة خيارات. الأول أن لا تفعل القيادة الفلسطينية شيئاً بخلاف الذهاب الى المنظمات الدولية. وهو الوضع القائم فعلياً على الأرض اليوم. لكن هذا الخيار كما نلاحظ لا يستطع إغلاق الباب في وجه الراغبين بمقاومة الاحتلال بطريقتهم الخاصة بهم. وهو بالتأكيد لا يستطيع إنهاء الاحتلال أو منعه من تنفيذ مخططاته. وهو في نهاية المطاف يعني أن السلطة السياسية ستكون دائما في موقع الدفاع عن النفس بسبب الاتهامات الإسرائيلية لها إما بالتقصير أو بنشر ثقافة "الكراهية والتحريض" كما ادعى نتنياهو مؤخراً. الأهم هو أن المقاومة الفردية لا تستطيع إنهاء الاحتلال وقد تؤدي الى إلحاق الضرر بالقضية الفلسطينية إن تحولت مواجهة الاحتلال ومستوطنيه الى فعل انتقامي يستهدف المدنيين الإسرائيليين.
الخيار الثاني هو العودة للمفاوضات. لكن هذا الخيار جربته القيادة السياسية وثبت فشله. المفاوضات هي خيار ممكن عندما يقبل الطرف الثاني بإنهاء الاحتلال علناً، ويسعى للتفاوض لتنفيذ ذلك. لكن المفاوضات مع طرف يعتبر القدس الشرقية جزءاً من عاصمته، ويعتبر الاستيطان مشروعاً في الأراضي التي يحتلها، ليس مضيعة للوقت فقط، ولكنه يحمل في داخلها فكرة أن السلطة توفر لإسرائيل من خلال ذلك الغطاء الدولي والاستقرار السياسي لقيامها بتنفيذ سياسات القضم والضم للأراضي الفلسطينية.
الخيار الثالث هو المقاومة المسلحة وهي مقاومة مشروعة ويكفلها القانون الدولي. من حق أي شعب يتعرض للاحتلال أن يقاوم من يحتله شريطة أن يكون المستهدف بهذه المقاومة هو جيش الاحتلال وليس المدنيين. وشريطة أن يكون مكان المقاومة هو الضفة المحتلة بما فيها القدس الشرقية وليس تل أبيب أو يافا او حيفا. لكن الإقرار بمشروعية هذا الحق لا يعني بالضرورة أن هذا الخيار هو الأفضل للفلسطينيين. الواقع أن هذا الخيار هو الأكثر تكلفة للفلسطينيين وقبل مشاهدة ثماره ستمضي سنوات طويلة. في لبنان مثلاً حيث ظروف المقاومة كانت أفضل بكثير من ظروف المقاومة الفلسطينية في الضفة بسبب وجود خطوط إمداد مستمرة لهم وبسبب عدم سيطرة إسرائيل على كل لبنان وعلى حدوده، احتاجت المقاومة لثمانية عشر عاماً قبل أن تتمكن من إجبار الاحتلال على الرحيل. في الضفة ستكون التكلفة أعلى بكثير والمدة الزمنية أيضاً أطول بكثير إذا ما أضفنا وجود نصف مليون مستوطن في الضفة وأن اليمين الإسرائيلي يعتبرها جزءاً من "أرض إسرائيل". لذلك مشروعية المقاومة المسلحة في الضفة لا يجب أن تعمينا عن الحقائق المرتبطة بهذا الشكل من المقاومة.
الخيار الرابع هو العودة للمقاومة الشعبية لإحداث أزمة دائمة لإسرائيل تدفعها لإنهاء احتلالها. المقصود بالأزمة هنا ثلاثة عناصر: إجبار جيش الاحتلال على الانخراط بشكل يومي في محاولات فض المسيرات والاحتجاجات الفلسطينية بهدف إعادة النقاش الى داخل المجتمع الإسرائيلي حول مستقبل احتلالهم للضفة. رفع التكلفة المادية للاحتلال بإجباره على توجيه العشرات من الآلاف من جنوده للضفة. وأخيراً رفع الكلفة السياسية للاحتلال عالمياً. هذا خيار واقعي وممكن وقد لجأ إليه الشعب الفلسطيني في انتفاضته الأولى وكاد أن يحقق هدف إنهاء الاحتلال لو لم يتم إنهاء الانتفاضة بتوقيع اتفاق أوسلو.
منذ بناء الجدار العازل وانتهاء الانتفاضة الفلسطينية الثانية لا يتذكر الإسرائيليون بأنهم يحتلون شعباً آخر إلا عندما تكون هنالك حرب مع غزة، أو عملية فردية، أو عندما يعبر مسؤولون دوليون عن إدانتهم لمشروع استيطاني جديد في الضفة. في الحرب يتوحد الإسرائيليون والانتقادات الدولية لا تعنيهم كثيراً لأنها لا تتحول الى فعل سياسي. المقاومة الشعبية ستعيد مسألة مناقشة إنهاء الاحتلال (أو استمراره) الى الفضاء الخاص بالإسرائيليين، وقد يعيد هذا النقاش إحياء معسكر السلام الإسرائيلي الذي مات فعلاً بعد الانتفاضة الثانية.
المقاومة الشعبية أيضاً مكلفة مادياً وسياسياً للإسرائيليين. مادياً، بالإضافة الى اضطرار إسرائيل لنشر العشرات من الآلاف من جنودها في الضفة، ستتحمل أيضاً تبعات مقاطعة اقتصادية عالمية متنامية. وسياسياً، سيزداد التعاطف الدولي مع الشعب الفلسطيني وسيؤثر ذلك بالتأكيد على المواقف السياسية للعديد من الدول من الاحتلال الإسرائيلي. القضية الفلسطينية تكاد تكون الوحيدة في الشرق الأوسط التي تحظى بتأييد وتعاطف عالمي. صحيح أن ملايين العراقيين والسوريين شردوا لكن لا يوجد اهتمام عالمي بقضيتهم مثلما يوجد للقضية الفلسطينية وهي مسألة يمكن الاستثمار فيها وتحويل التصويت الذي جرى في البرلمانين البريطاني والإيرلندي لصالح فلسطين وقرار السويد بالاعتراف بدولة فلسطين الى سياسات مناصرة للشعب الفلسطيني تتبناها حكوماتهم.
تخيلوا قوة تأثير مشهد - وهو مستوحى من محاضرة لنورمان فينكلستين في كندا - خروج ربع مليون فلسطيني الى الجدار العازل وهم يحملون "شواكيش" لهدم الجدار على المجتمعين الإسرائيلي والدولي. أو خروج مثل هذا العدد الى حاجز إيريز لإنهاء الحصار الإسرائيلي لغزة. الفلسطينيون ليسوا بلا خيارات وليس جميع الخيارات المطروحة أمامهم بلا قيمة، ولكنهم يحتاجون اليوم أكثر من أي وقت مضى للشجاعة في اتخاذ القرار.