خبر : ياسر عرفات ... حيث تكون القضية كلها رجل ..بقلم: د.مجدي جميل شقورة

الأربعاء 12 نوفمبر 2014 07:35 ص / بتوقيت القدس +2GMT



عندما نتوقف أمام مسيرة الرئيس الشهيد ياسر عرفات، فإننا ملزمون بأن نعترف أما أنفسنا على الأقل أننا أمام شخصية قلما يجود الزمان بمثلها، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نستعرض مسار الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين، إلا ونجد ياسر عرفات في القلب منها، كيف لا وهو يعتبر مؤسس الهوية الوطنية الفلسطينية الحديثة، وصانع مجدها الكفاحي، وحامل لوائها، وناظم أطرها، وهو إلى جانب ذلك أبو الوحدة الوطنية الفلسطينية، فلا يمكن لأحد أن يقول أن ياسر عرفات كان قائداً لحركة فتح فحسب، هو نفسه لم يكن يعجبه هذا الوصف وهذا اللقب، كان يروق له أن يقال له أنت "والد" الشعب الفلسطيني، أو أنت "رمز" الشعب الفلسطيني، لم تغريه كلمة الرئيس، لا بالعربية ولا باللغات الأجنبية، كان منشغلاً بمسار آخر، الحرية والاستقلال، وبسبب هاتين الكلمتين دفع ياسر عرفات حياته.
إن مجرد المرور سريعاً على أزمنة الكفاح الوطني ومسيرة الثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها في العام 1965 يجعل شريط الذكريات مليئاً بالمواقف التي تدمع لها العين ويبكي لها القلب، نتذكر نفق عيلبون الشهير وياسر عرفات يضع النسق الذي ينبغي أن يسيره الثوار في رحلتهم الأولى ليعلنوا عن انطلاق ثورتهم، ونتذكر سنتين أمضاهما الرجل بين اخوته الثائرين في كهوف الضفة الغربية عامي 1966 و1967، والمغارات التي آوته في لحظات فاصلة من عمر شعبنا، ثم نتذكر أسطورة "الكرامة" عام 1968، وقدرته وجنوده على مواجهة الجيش الإسرائيلي الذي كان ما يزال منتشياً بفعل انتصاراته على الجيوش العربية في حرب العام 1967، وبعدها نتجرع مرارة الألم ونحن نتذكر جهود ياسر عرفات في ابقاء القرار الفلسطيني في يد فلسطينية، ويدفع ورفاقه ثمن ذلك في أحداث العام 1970 و1971، ثم ننطلق نحو لبنان ليجد ياسر عرفات نفسه، وقد أصبح رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، في مواجهتين حتميتين، أولاهما أن يختار لنفسه حلفاء في المسارات اللبنانية المتناقضة، ويخوض بشرف معارك الدفاع عن المخيمات الفلسطينية في أتون الحرب الأهلية، والعين الأخرى تركز على التناقض الرئيس في الصراع، حيث معارك استخباراتية في مواجهة الموساد الإسرائيلي وعمليات نوعية في العمق الاحتلالي، ونستذكر هنا عملية ميونخ ومطار عنتيبي وغيرها، ثم تكون مواجهة انتصارات الثورة في العام 1974، عندما أقر مؤتمر الرباط وحدانية التمثيل الفلسطيني، وأقرت الأمم المتحدة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، يوم أن رفع ياسر عرفات غصن الزيتون والبندقية في المحفل الأممي، ويقول للدنيا كلها "لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي".
نعم نتذكر ياسر عرفات، ومعه نتذكر صمود بيروت الأسطوري، بعد 88 يوماً من المواجهة المباشرة، والنزف المتواصل، يخرج ياسر عرفات من بيروت ومن ثم من طرابلس، ويشق عباب البحر حاملاً قضيته ومثقلاً بالهم والوجع لتكون تونس قبلته الجديدة هذه المرة، وتلاحقه طائرات المحتلين في حمامات الشط عام 1985، ولا يتوقف الرجل، ويستنهض كل طاقة ليكون على قدر مسؤولية شعبه في انتفاضة العام 1987، ويفقد ذراعه اليمني أبو جهاد عام 1988 وذراعه اليسرى أبو إياد في العام 1991، يواصل مسار المواجهة، ويقبل الذهاب إلى مدريد ليسمع العالم صوت الدكتور حيد عبد الشافي وهو يبهر الدنيا بوجود شعب أخذ قراراً لا رجعة فيه أن يستقل وينعم بالحرية، وتأتي أوسلو كمرحلة عابرة في السياق الوطني، يضع فيها ياسر عرفات قدامه لأول مرة على أرضه المحررة، ولو جزئياً، ويقيم السلطة الوطنية كملاذ أول للانعتاق من نير الاحتلال، ولا يتوقف الحلم، وتكون مواجهة أحداث النفق عام 1996 ليقول فيها للإسرائيليين أن ياسر عرفات الذي يحب السلام ما تزال يده ضاغطة على الزناد، ويقاتل الرجل ويقتل جنوده ويُعمل في المحتلين قتلاً، ثم يواصل مساره، ليقول في كامب ديفيد عام 2000 أن سير العالم في جنازته أهون ألف مرة من التفريط بحبة من تراب القدس، وتندلع انتفاضة الأقصى، ليكون أبو عمار قائدها وملهمها الأول، ويواصل مسيرته الكفاحية، ويُحاصر في مقاطعته، ويمنع من الحركة والسفر، ثم تجتمع كل شياطين الدنيا ويأخذوا قرارهم المشؤوم بإزهاق روحه الطاهرة، ويدسون له السم، ثم تكون رحلة العلاج والاحتضار والموت في مستشفى بيرسي العسكري في ضاحية كلامار غربي باريس، وتصعد روح الثائر المقاتل ياسر عرفات إلى بارئها في تمام الساعة الثالثة والنصف من فجر يوم 11/11/2004، وتبكي عيون كل أحرار العالم الرجل الذي حافظ طيلة مسيرته على لقب "الزعيم".
رحم الله ياسر عرفات، أبو الثورة الفلسطينية الحديثة، الذي كان يرغب في أن يُدفن في باحات الأقصى، الذي قاتل الدنيا كلها لأجله، ليكون مقره المؤقت في مقاطعته في رام الله مشمولاً بتراب القدس، حتى يأذن الله عز وجل بأن يُنقل الرفات الطاهر إلى مقره الدائم في القدس الشريف.
إن كنا اليوم نرثي ياسر عرفات، ونستعرض مناقبه، رغم أنه كباقي البشر، لا تخلو حياته من مثالب كما المناقب، إلا أن ما يمكننا أن نتفق عليه هو أن الرجل كرّس عمره لقضيته العادلة، وقاتل من أجل وحدانية التمثيل الفلسطيني، وجاهد من أجل أن ينعم شعبه بالحرية والاستقلال، كان الرجل بحق مدرسة في التكافل الاجتماعي، والتقشف القيادي، والاجتهاد الدائم لنصرة الفقراء، ويكفي أننا نعلم اليوم بيقين أن المرة الوحيدة التي خرج فيها الزعيم أبو عمار من إغماءته الطويلة داخل المستشفى كانت للسؤال عن رواتب الموظفين وهل تسلموها أم لا، كان وجعه وجع الأب على أبنائه، وكان مسار حياته هو فلسطين التي عشقها وعاش عمره من أجل حريتها وكرامة شعبها.
إلى اللقاء يا أبو عمار حيث مستقر الخالدين في الذاكرة وفي الحضور
/ باحث في الشؤون الفلسطينية