تراجعت حركة النهضة الإسلامية، من موقعها الأول في البرلمان التونسي إلى الموقع الثاني لصالح حركة نداء تونس بقيادة الباجي قائد السبسي، أحد رموز نظامي بورقيبة وزين العابدين بن علي.
وعلى الرغم من تراجع حركة النهضة بقيادة راشد الغنوشي من الموقع الأول إلى الموقع الثاني، فالنتائج دالة على قوة حركة النهضة، وأن دورها لم يكن طارئاً، وليس استثنائياً، ولم تهبط من السماء على الأرض، بقوة تحالفاتها الدولية، أو بسبب احتجاجات الحراك التونسي ضد النظام السابق، بل بفعل حضورها وسط شعبها التونسي ومساماته الجماهيرية، وهذا يدلل على أنها حزب ثابت ومتحرك، ثابت بين التوانسة ومتحرك وفق المعطيات المتبدلة حصيلة تطور الأحداث، أي أنه حزب سياسي يعتمد على الشارع وقوة انصهاره وانغماسه بين صفوف الناس، وليس بسبب عقيدته أو مرجعيته وإن كانت تساعده وتوفر له غطاء لدى بسطاء الناس وعامتهم.
نتائج الانتخابات التشريعية التونسية لها دلالات عميقة، وآثار حسية ملموسة بعدة اتجاهات:
أولاً: دللت على واقعية وحُسن إدارة وعمق تفكير قيادة النهضة، وعلى رأسهم قائدها راشد الغنوشي، فهو لم يسع للرئاسة، ولا لأي موقع تنفيذي سلطوي، وكان ذلك دلالة على تفاني الرجل، وإيمانه بقضيته، أكثر من مسعاه الشخصي لأن يكون في المواقع السلطوية النافذة الأولى، وهو لم يكن الوحيد في ذلك، بل قاد مدرسة في داخل مؤسسة النهضة برزت في شخصيات الوزراء ورئيس الوزراء الذين تم اختيارهم من قبل النهضة، وأثروا الاستقالة عندما اختلفوا مع الآخرين، ورحلوا لمصلحة الاتفاق مع الآخرين.
تنظيم النهضة، تراجع تمثيله في البرلمان، ولكنه كسب دوراً وتاريخاً ومكانة من الصعوبة أن يفقدها التنظيم طالما بقيت إدارته بهذا المستوى من التفاني والواقعية التي يتحلون بها، وهو مكسب ليس فقط للشعب التونسي، بل وسيشكل نموذجاً يُحتذى في العالم العربي، بدلاً من التجارب المريرة الدموية التي قادها "الإخوان المسلمون" في فلسطين عبر انقلاب "حماس" على الشرعية واختطاف قطاع غزة منذ العام 2007 وتدميره وخنقه بالأحادية واللون الواحد وادعاء التمثيل السماوي، والسماء بريئة من التسلط والأفعال الدموية، وكذلك ما حصل في مصر أيضاً في عمليات استئثار "الإخوان المسلمين" وإقصاء الآخرين، وما فعلته "القاعدة"، ومن بعدها تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في سورية والعراق واليمن ومصر ومن قبلهم في الصومال والجزائر وصولاً نحو المغرب، ولم تسلم العربية السعودية من أفعالهم، وما فعله تنظيم ولاية الفقيه في إيران ولبنان والعراق وما يفعله الآن في اليمن تحت لافتة أنصار الله والحوثيين، ومحاولة السيطرة الأحادية وصراعه مع "القاعدة" وضد حركة الإخوان المسلمين وحزبها الإصلاح.
انتصرت النهضة رغم خسارتها للموقع الأول، ولكنها دللت على أنها تحترم نتائج صناديق الاقتراع وتقبل بقيم تداول السلطة، وهذا ما يُسجل لها، كما يُسجل للتوانسة أنهم لا يوقعون على بياض لأي حزب مهما ادعى العقيدة أو التمايز عن الأحزاب الأخرى، فالنهضة حزب سياسي مثله مثل الآخرين.
ثانياً: كان الانتصار لحزب نداء تونس، وهو حزب حديث النشأة، ولكنه عميق التكوين منذ أيام بورقيبة ومروراً بعهد زين العابدين بن علي، ما يؤكد أن الذين عملوا مع العهدين السابقين لم يكونوا شياطين وحسب، بل ها هم يحتكمون لصناديق الاقتراع، وينحاز لهم شعبهم ما يدلل على قدراتهم وتملكهم لخبرات إدارية وتاريخ مهني، دفعت التونسيين للانحياز لهم لسببين، أولاً لنظافة ماضيهم المهني، وثانياً رغبة من قبل الأغلبية التونسية في مواصلة خيار النظام المدني والديمقراطي والتعددي، بعيداً عن الأحادية وادعاء امتلاك الحقيقة أو احتكار الدين وجعله مظلة للوصول إلى سلطة اتخاذ القرار.
انتصار رموز العهدين السابقين، يدلل على فشل تجارب العراق ومصر وليبيا في حرمان رموز العهود السابقة من حق العمل السياسي، فالحرمان قرار تعسفي ورؤية أحادية إقصائية مرفوضة، طالما أن رموز العهد السابق لم يتورطوا في أي عمل فاسد، فالفاسد يجب تقديمه للمحاكمة، كشخص ارتكب فعل الفساد سواء في عهد نظام ديكتاتوري أو نظام ديمقراطي، وبالتالي حرمان شخصه فقط من تولي أي مهام جديدة، طالما أدانته محكمة عادلة.
ثالثاً: غياب أحزاب أخرى عن النتائج الملموسة، يدلل على أنها طارئة، وليست عميقة الجذور وسط مسامات شعبها، فالحراك التونسي ولّد أحزاباً أو شخصيات صعدت على سطح المشهد السياسي التونسي ولكنها تلاشت في أول اختبار ديمقراطي صنعته نتائج صناديق الاقتراع، وهذا يعكس ديناميكية الشعب التونسي الذي يستفيد من تجارب أوروبا القريبة منه، ومن تجارب توانسة عاشوا في أوروبا وعادوا إلى تونس وبعضهم ما زال في أوروبا، ولم يفقد صلته بوطنه الأم، مع أنه وصل إلى مواقع برلمانية وحزبية وبلدية في العديد من البلدان الأوروبية المختلفة، ولمن صلته بوطنه الأم، أكسبت مواطنيه التعلم وتبادل المعرفة والتأثير المشترك الذي ترك بصمات له على أحداث المشهد التونسي.
h.faraneh@yahoo.com


