يبدو أن الشرارة الأولى التي انطلقت من تونس والتي ألهبت السهل العربي كله ما زالت تحتفظ بوهجها لجهة ما يمكن أن تؤسس في مشروع التحول الديمقراطي في كامل منطقة الإقليم. صحيح أن التجربة المصرية ـ لما لمصر من ثقل وأهمية ودور إقليمي ـ تحتل اليوم موقع القيادة والريادة في تحويل موجة الاحتجاجات العربية العارمة إلى مشروع قادم نحو الدولة الديمقراطية الحديثة إلاّ أن للتجربة التونسية بريقها وأهميتها ايضاً من زوايا هي غاية في الحساسية والتأثير إضافة إلى ما تنطوي عليه من أبعاد ودلالات.
تنبع أهمية الحدث التونسي الأخير، والذي تمثل في نجاح تحالف وطني عريض في مواجهة حزب النهضة من كون هذه التجربة تجربة رائدة على صعيد التحول الديمقراطي تحديداً، وتجربة فريدة في رؤية الإسلام السياسي نفسه لعملية التحول السائرة في تونس.
لا شك بأن المعضلة الرئيسية ـ كما أرى ـ لكل ما اصطلح عليه (بثورات الربيع العربي) كانت ولا تزال غياب الوعاء الوطني والديمقراطي الحاضن والحامل لمشروع التحولات الديمقراطية بما في ذلك وربما على رأس ذلك الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لهذا التحول إضافة الى البعد السياسي الخالص. كما لا شك أيضاً أن فصائل الإسلام السياسي كانت هي الفصائل الأكثر قدرة وكفاءة على امتطاء هذا المشروع وركوب موجته وتوجيه دفته واختطافه إن اقتضى الأمر.
في الانتخابات النيابية الأولى والتي تلت إسقاط حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي حصل حزب النهضة على أغلبية كبيرة ومريحة، واكتفى بدعم الرئيس المنصف المرزوقي، ولم يخض معركة الرئيس عن عمد ووعي ودراسة. كان هذا هو المؤشر الأول على أن حزب النهضة لديه بالمعنى النسبي فهم خاص لقضية الاستئثار بالسلطة يتلخص بالسيطرة على الحكومة اولاً، خصوصاً وأن صلاحيات الرئيس في تونس ـ حسب النظام نفسه ـ أقل مما هي عليه في الأنظمة الرئاسية أو حتى في الأنظمة الرئاسية البرلمانية الأخرى.
لهذا لم يكن هذا "التميز" مؤشراً كافيا في الواقع على أن ثمة تحولات حقيقية عميقة قد طرأت بالفعل على رؤية النهضة ومفاهيم النهضة لمسألة الشراكة الوطنية.
لم يتمكن حزب النهضة من إدارة شؤون البلاد بصورة ناجحة ولا ناجعة، كما دارت شكوك كبيرة حول موقف الحزب من الإرهاب ودارت شكوك أكبر حول مسؤولية الحزب عن الاغتيالات التي تمت لقادة من اليسار الديمقراطي التونسي ومن المناضلين النقابيين.
حاول حزب النهضة كما نعرف تدارك الأمر ولكن القوى الوطنية والديمقراطية والليبرالية التونسية لم "تقتنع" بهذا التدارك والأغلبية الساحقة في هذه القوى اعتبرت مواقف النهضة حيال الشراكة الوطنية وضروراتها في حكم تونس مجرد استدارة سياسية آنية لا تعكس توجهاً جاداً وجديداً نحو هذه الشراكة.
الآن ثبت بالوجه القطعي أن الحداثة على الرغم من كل ما اعتراها من تشوهات وتشويهات كانت قد فعلت فعلها في المجتمع التونسي وان المجتمع المدني في تونس كان في الحقيقة هو السد المنيع أمام كل محاولات الاستئثار والهيمنة من قبل النهضة وحلفائها.
التحديث الذي شهدته تونس في المرحلة البورقيبية اثمر في نهاية المطاف عن مجتمع يحمل درجة عالية من المناعة في مواجهة قوى التدمير الاجتماعي.
الآن وقد أفرزت صناديق الاقتراع نجاح (نداء تونس) فقد اختار الشعب التونسي من خلال صوته "المغير" أن يحجّم الإسلام السياسي ومشروعه وذلك خشية منه على تفكيك الدولة الوطنية وتحويل الحكم في البلاد إلى حاضنة للإرهاب أو أداة في يد الإسلام السياسي لفرض مشروعه على المجتمع التونسي.
لم يكن ممكناً هذا الاصطفاف لولا هزيمة الإسلام السياسي في مصر ولولا تنامي شعور الجماهير في طول بلاد العرب وعرضها بأن مشروع الإسلام السياسي يحمل في طياته خطر تفكيك الدولة الوطنية وتدمير التماسك الوطني والاجتماعي وصولاً إلى حالة الفوضى الشاملة التي تؤسس لانتشار منظمات التكفير والإرهاب.
إذا كانت "هزيمة" النهضة تحمل مثل هذه المعاني فإن نجاح (نداء تونس) هو المشهد الأول في فصل التحول الأول نحو الديمقراطية ليس إلاّ.
ذلك أن مسيرة التحول الديمقراطي بالمفهوم الشامل لهذا التحول وبما ينطوي عليه من أبعاد اجتماعية واقتصادية وثقافية تنموية هي عملية وصيرورة حتمية من الزاوية التاريخية ومن الزاوية العملية المباشرة للثورات. التحدي التنموي أمام تونس كما هو أمام مصر، بلد الريادة والقيادة هو المدخل الوحيد لبناء دولة ديمقراطية حديثة تشق طريق العرب لعبور بوابة المستقبل، خصوصاً وأن القوى التي تستثمر عذابات الحاضر للرجوع إلى الماضي هي القوى التي ما زالت تستحوذ على قدرات كبيرة لتدمير الثورات التحررية وحرف مسارها نحو تبليد حركة المجتمع وتجميدها عن حدود أيديولوجيا الضباب الاجتماعي أو ضباب الأيديولوجيا الاجتماعية.
"نداء تونس" محفز كبير لدور المجتمع المدني ونذير وإنذار لحركة الإسلام السياسي في فلسطين للتراجع والمراجعة قبل فوات الأوان وهزيمة النهضة درس لكل الذين ما زالوا يعيشون أسرى لدكتاتوريات الأيديولوجيا المغلقة.


