إثر تصاعد الخلافات الأميركية ـ الإسرائيلية مؤخراً، على خلفية انفجار الوضع في العاصمة الفلسطينية بسبب إقدام حكومة نتنياهو على سلسلة من الخطوات الهادفة إلى تهويد نهائي للمدينة المقدسة، تصاعدت في الداخل الإسرائيلي موجات الرفض لسياسات حكومة نتنياهو الرافضة للسلام، وقد استثمرت عدة جهات مناسبات سياسية محددة، لتأكيد أن حكومة نتنياهو لا شأن لها بالعملية السياسية، مع اتهامات له بالاستجابة لمتطلبات اليمين الإسرائيلي لصالح بقاء حكومته على أنقاض المصالح الحقيقية لإسرائيل، فقد مرت 20 عاماً على اتفاق "وادي عربة" بين إسرائيل والأردن، بينما تلمح الحكومة الأردنية بإعادة النظر بهذه المعاهدة التي كانت الأخيرة التي تبرمها الدولة العبرية مع دولة عربية، على خلفية الإجراءات الإسرائيلية في العاصمة الفلسطينية، وبعد ذلك بعام، من التوقيع على معاهدة "وادي عربة"، تم اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية وقتذاك اسحق رابين، في مثل هذه الايام أيضاً، الأمر الذي استدعى من قبل عدة جهات إسرائيلية إلى العودة للحديث عن أداء نتنياهو فيما يتعلق بالعملية التفاوضية. الرئيس الإسرائيلي السابق، شمعون بيريس، شريك رابين، اتهم بهذه المناسبة نتنياهو بعدم الوطنية عندما قال في احتفال أقيم في تل أبيب مؤخراً إن: "أولئك الذين يتخلون عن السعي للسلام ليسوا وطنيين" ان من المعيب أن تكون مبادرة السلام الوحيدة المطروحة هي مبادرة عربية، أين مبادرة السلام الإسرائيلية؟".
مراجعة ومتابعة وسائل الإعلام الإسرائيلية، تشير إلى أن هناك ما يشبه الملل من تصريحات وخطابات نتنياهو، كذاك الذي جرى في آذار الماضي أمام منظمة الإيباك الصهيونية في الولايات المتحدة، أو خطابه الأخير قبل حوالي شهرين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، الإعلام الإسرائيلي جهد بالبحث عن جديد يقدمه للعالم من خلال هذين الخطابين ولكن دون جدوى، ولم يتمكن هذا الإعلام سوى تصدير الانطباع بأن نتنياهو لا يملك سوى سياسة واحدة: إرضاء المستوطنين والمتطرفين لضمان بقائه على رأس حكومته الحالية، الأمر الذي يؤكده إصراره على عدم إجراء انتخابات مبكرة على الرغم من توفر أسباب حقيقية لمثل هذا الأمر. الإشارات من الخارج كما من الداخل الإسرائيلي تؤكد على أن نتنياهو لا يعمل في السياسة إلاّ من زاوية مصلحته الخاصة في تجاهل تام، لما ترتئيه أحزاب المعارضة وقوى فاعلة نسبياً في المجتمع الإسرائيلي.
من هنا تأتي الدعوة التي أطلقها 105 من كبار الضباط والعاملين السابقين في الجيش والاستخبارات والشرطة الإسرائيلية إلى نتنياهو عبر رسالة مفتوحة نشرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية دعوته إلى "إطلاق مبادرة سلام إقليمية" تمهد للسلام مع الفلسطينيين على قاعدة دولتين لشعبين، باعتبار أن إسرائيل قوية بما يكفي من دون أن تخشى من أية مخاطر على أمنها، وقد انطلق هؤلاء، حسب صاحب فكرة الدعوة، الجنرال امنون ريشف القائد السابق لسلاح المدرعات، ان العسكر، كما المجتمع في إسرائيل قد سئموا المعارك التي تجري عاماً وراء عام بدلاً من القيام بجهود فعلية لاعتماد المبادرة العربية.
هذه ليست المرة الأولى التي يتنادى بها، كبار القادة السابقين في الجيش والشرطة والاستخبارات لانتقاد سياسة نتنياهو، كما أن الملل من سياسته هذه تم التعبير عنها في مناسبات عديدة من دون أن تفلح هذه التحركات والاحتجاجات والدعوات في تغيير سياسة حكومة نتنياهو، ولم يعر رئيس الحكومة الإسرائيلية هذه الانتقادات أي اهتمام، بل ربما ساعدته في تلقي الدعم والتأييد من عتاة اليمين المتطرف.
إلاّ أن هذه المرة، فالوضع مختلف ـ نسبياً ـ ذلك أن هذه الدعوات تنطلق في وقت تشهد به إسرائيل حصاراً سياسياً على المستوى الدولي بشكل متزايد. التوتر مع أميركا ودول الاتحاد الأوروبي لم يسبق له مثيل. الدعوات لدى الرأي العام الأوروبي للاعتراف بدولة فلسطين على الطاولة الأوروبية، حتى الولايات المتحدة، لمحت إلى أنها قد لا تستخدم حق النقض في مواجهة المبادرة الفلسطينية المحتملة والمقدمة إلى مجلس الأمن من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وفقاً لجدول زمني محدد، هذه المؤشرات قد تتحول إلى اتجاهات سياسية من شأنها أن تزيد من الحصار السياسي المترافق مع إجراءات دبلوماسية واقتصادية يجعل إسرائيل في وضع أكثر صعوبة من أي وقت مضى، من هنا تأتي أهمية هذه التحركات الداخلية الإسرائيلية هذه المرة.
ولكي تثمر هذه العوامل الداخلية والخارجية تأثيراً مباشراً يدفع بنتنياهو وحكومته إلى إجراء تعديل حقيقي على سياساته، فإن الأمر بات مناطاً بالجانب الفلسطيني الذي قام بالفعل في التعاطي مع العملية التفاوضية باعتبارها قد وصلت إلى طريق مسدود، ما فرض عليه التوجه إلى مجلس الأمن، الأمر الذي أشارت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية، باعتباره "انتفاضة فلسطينية ثالثة" من شأنها تعديل ميزان القوى السياسي من دون عنف أو سلاح أو حجارة، بل فعلا سياسياً دبلوماسياً بامتياز. ان التركيز على هذه الانتفاضة فلسطينياً، واستثمار التداعيات الإقليمية والدولية، وخطابات نتنياهو السياسية، هي ما يمكن أن يشكل الحاضنة للتوجه الفلسطيني، والإمساك بإصرار بهذا التوجه، هو الذي سيؤدي إلى تغيير محتمل على سياسة نتنياهو، وعلى الأقل فإنها ستضعف توجهاته الحالية!!
Hanihabib272@hotmail.com


