عندما تنازلت حركة النهضة التونسية عن الحكم مطلع العام الحالي تفادياً لاستفحال الأزمة السياسية التي أعقبت سلسلة الاغتيالات فيها لصالح حكومة توافقية قال الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة ومؤسسها كلمته الشهيرة " لقد خسرنا السلطة ولكننا ربحنا تونس وربحنا الديمقراطية " وذلك رداً على من اتهمهم بالتنازل عن الحكم بسبب الضغوطات وذلك بالرغم من أن الحركة قد فازت في الانتخابات الأولى التشريعية التي أعقبت الثورة بأكبر نسبة من المقاعد . وهذا الرد يدل على حكمة عميقة ومسؤولية كبيرة لا توجد في الزعماء العرب – إلا من رحم ربي – كما لا توجد في الأحزاب العربية الممسكة بمقاليد السلطة في بلادها , وقد لا توجد أيضاً في كثير من الحركات الإسلامية التي تملك رؤية أحادية للحق المطلق ونظرة إقصائية للآخرين . وفي الانتخابات الحالية قبلت حركة النهضة بنتائج الانتخابات التشريعية التي أزاحتها من المكان الأول إلى المكان الثاني من البرلمان التونسي واعترفت بها ولم تتهمها بالتزوير كما يحدث دائماً في مثل هذه الأحوال في البلاد العربية .
والحقيقة أن نجاة تونس من المصير الذي آلت إليه ثورات " الربيع العربي " من حروب أهلية وتفكيك للدولة أو حدوث ثورات مضادة يعود بالدرجة الأولى إلى حكمة هذا الرجل ورؤيته الفكرية التجديدية المتنوّرة داخل الحركة الإسلامية , وامتلاكه لبُعد نظر في القضايا المعاصرة التي تهم الأمة والشعب والمجتمع وأهمها : العلاقة بين الدين والدولة والمجتمع وقضايا الحرية والمواطنة والتراث والفن والمرأة والاجتهاد ... وزاد مصداقيته كمفكر إسلامي يمتلك رؤية متطورة للقومية العربية والوطنية التونسية كما زاوج بين الفكر والعمل وبين النظرية والتطبيق فأسس مع اخوانه ( الجماعة الإسلامية ) عام 1972 التي تغير اسمها إلى ( الاتجاه الإسلامي ) عام 1981 ثم أصبحت ( حركة النهضة ) عام 1989 , ولقد ترجم هذه المزاوجة نضالاً مستمراً ضد الاستبداد السياسي لنظام الحكم في تونس بقيادة الحبيب بورقيبة ثم خلفه زين العابدين بن علي , وتصدياً شجاعاً للعلمانية المتطرفة المعادية للإسلام والعروبة التي تميز بها النظام التونسي , وكفاحاً متواصلاً ضد الظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي والفساد الأخلاقي في ظل النظام التونسي ... حتى نال نصيبه من السجن والنفي مع إخوانه في حركة النهضة حتى اندلاع أولى ثورات الربيع العربي وأكثرها نجاحاً التي عاد بعد انتصارها إلى تونس بعد سنوات طويلة من النفي .
وعلاقتي بقكر الشيخ راشد الغنوشي تعود إلى ما يُقرب من ثلاثين عاما عندما قرأت كتابه الأول " مقالات " عام 1985 الذي يتضمن البيان التأسيسي لحركة الاتجاه الإسلامي بالإضافة لمقالات تناقش قضايا سياسية وفكرية وفلسفية وتربوية تشير في مجملها – إضافة إلى كتاباته التالية- امتلاكه لرؤية تجديدية متنورة داخل الحركة الإسلامية التي يعُتبر الغنوشي أحد رموزها المعاصرين الذين أضافوا لها في مجالات عديدة كالتراث حيث دعا إلى التحرر من التعصب المذهبي والاستفادة من كل المذاهب والتجارب الحضارية الإنسانية , وفي مجال العقيدة دعا إلى تراث الجامعة الإسلامية الوسطى المعتدل الذي يمثله الأفغاني ومحمد عبده والبنا , وفي مجال التفسير دعا إلى ربط القرآن بالواقع لإصلاحه وتنقيته من الجدل المذهبي الكلامي , وفي مجال أصول الفقه دعا إلى إحياء فكر المقاصد للشاطبي , وفي مجال الفن دعا إلى وجود رسالة ملتزمة للفن , وفي مجال المرأة دعا إلى تعزيز مكانتها في المجتمع وتمكينها , إضافة إلى دعوته لمقاومة الاستبداد والظلم والاستغلال والفساد , أما قضية فلسطين فقد دعا إلى النضال من أجل تحرير فلسطين واعتبارها مهمة مركزية وواجباَ تقتضيه ضرورة التصدي للهجمة الصهيونية الاستعمارية , ولقد نادى بحقوق المواطنة التي تعني مساواة جميع المواطنين في الدولة بالحقوق والواجبات بغض النظر عن مذاهبهم ودياناتهم .
والشيخ المفكر راشد الغنوشي بما يملك من هذه الرؤية المنهجية المتنورة والمتحررة من الجمود الفكري قاد حركة النهضة الإسلامية ومعها تونس إلى بر الأمان , وأعطى الأولوية للوطن وليس للحزب , من خلال احترامه للعملية الديمقراطية في البلاد وتسليمه بنتائج الانتخابات أو تنازله عن الحكم قبل ذلك ,إدراكاً منه بأن الحركة ما هي إلا وسيلة لتحقيق أهداف سامية وليست هدفاً في حد ذاته , هذا بالرغم من سمو رسالة حركة النهضة في إقامة دولة تحكم بالعدل وتحافظ على الحرية وترسخ قيم الإسلام وتقضي على الاستبداد والفساد , واعطاء الأولوية للوطن هو رجوع إلى الأصل الذي أقيم من أجله الحزب أو الحركة , فخسارة الحركة للحكم هي خسارة تكتيكية مؤقتة فقد تعود للحكم مرة أخرى عبر انتخابات قادمة , ولكن خسارة الوطن بضياعه في أتون الفتنة والصراع على السلطة والحروب الأهلية هي خسارة استراتيجية دائمة قد يفنى فيها الأخضر واليابس على أرض الوطن .


