ما يحدث اليوم من توتر او تصعيد في القدس يذكرنا بالاسباب التي ادت الى حدوث ثورة البراق عام ١٩٢٩، على الاقل في امرين ، الاول ان الذي ادى الى انفجار الاوضاع في القدس في ذلك الحين كان اليمين الاسرائيلي الذي كانت تمثله الحركة الاصلاحية بزعامة جابوتنسكي و ذراعها الشبابي المتمثل بحركة( بيتار) و التي هي اختصار لكلمات عبرية معناها ( حلف يوسف ترمبيلدور) و ذلك تخليدا له حيث كان احد القيادات العسكريه التي قتلت في شمال فلسطين.
هؤلاء الذين يقودون الهجمه على الحرم الشريف هذه الايام هم احفاد جابوتنسكي و يوسف ترمبلدور كموشي فيقلن الذي اصر اليوم للصعود الى باحات الحرم رغم طلب نتنياهو بعدم الاقدام على هذه الخطوة في الوقت الراهن على الاقل ، و امثال ميري ريغف و تسيفي حوطوبلي و اخرين ، مع مشاركة فاعلة من اعضاء الكنيست التابعين للبيت اليهودي الذي يمثل المستوطنين.
القاسم المشترك الاخر الذي يربط بين اسباب ثورة البراق و ما يحدث الان في القدس هو رغبة اليمين الاسرائيلي بتغيير الوضع القائم منذ العام ١٩٦٧، ليس فقط في القدس، لان هذا لا خلاف عليه تقريبا بين مختلف التيارات الصهيونية، بل في الحرم القدسي الشريف، او تغيير ما يعرف باتفاق الوضع الراهن الذي وضعه ديان بعد احتلال القدس في عام ١٩٦٧ حيث امر بأنزال العلم الاسرائيلي من على قبة الصخرة الذي وضعه جنود الاحتلال في حينه و سلم مفاتيح الحرم الى الاوقاف الاسلاميه بأستثناء باب المغاربه، وفقط سمح لليهود بزيارة الحرم دون اي طقوس دينية او استفزازية.
هؤلاء الذين في غالبيتهم قوميين اكثر منهم متدينين يسعون الى تغيير هذا الواقع، حيث يكثرون من حديثهم الاستفزازي عن تقسيم الحرم الشريف كما حدث في الحرم الابراهيمي و كذلك الدعوات المتكررة لبناء كنيس يهودي على باحات الحرم. في احداث البراق ايضا كان السبب في تفجير الوضع هو اصرار اليمين في ذلك الحين تغيير اجراءات زيارة اليهود الى حائط البراق ، الذي يسمونه ( حائط المبكى) او ( الكوتل) ، حيث كان مسموح لهم الزياره و الصلاة في اوقات محددة دون استفزاز او ضوضاء، و اهم هذه القيود في ذلك الحين عدم استخدام الزامور او ما يعرف ( الشوفار) . اعضاء اليمين في حينه اصروا على تغيير الوضع هناك و كانت الشرارة التي فجرت ثورة البراق و التي امتدت الى كل انحاء فلسطين.
ما حدث في حينه كانت محاوله لاثارة موضوع القدس ووضعه على رأس اولويات قيادة الحركة الصهيونية التي كانت اكثر حكمة او اكثر خبثا حيث تجاهلت عن قصد موضوع القدس على اعتبار ان الهدف الرئيسي كان هو اقامة دولة لليهود في فلسطين حتى لو لم تكن القدس جزء منها. لذلك ، لم تتردد الحركة الصهيونيه بقبول قرار التقسيم عام ١٩٤٧على الرغم ان القدس بشقيها الغربي و الشرقي وضعت تحت نظام دولي خاص و كانت خارج نطاق الدولتين التي اقترحتهما الامم المتحدة في قرار التقسيم.
التصعيد الذي يحدث الان هو ايضا له علاقه بتغيير الموقف الديني لدى الكثير من قيادات الحركة الصهيونية الدينية، او ما يعرف بالتيار الديني القومي ، حيث وحتى سنوات معدودة كان هناك شبه اجماع ديني بالتقيد بالفتوى التي يتبناها الحاخمان الاكبران في اسرائيل، الغربي و الشرقي على حدا سواء، حيث وفقا للشريعه اليهودية لا يجوز لليهودي الصعود الى باحات الحرم حيث يعتقد ان هناك يوجد في مكان ما تحت الارض قدس الاقداس، ولا يجوز الصعود الى باحات الحرم لكي لا يتم تدنيسها. هذا الموقف الى زمن ليس ببعيد كان ملزم ليس فقط للتيار الارثودكسي ( الحريديم) الذي تمثله شاس و علم التوراه و غيرها ، حيث ما زالوا ملتزمين به، ولذلك لا نراهم يشاركون في هذه الحفله التحريضية، بل غالبية التيار الديني القومي او الصهيوني القومي ، الذي يمثل المستوطنين كانوا يؤمنون بذلك ، ولكن اليوم هناك تغيير في قناعاتهم و اصبح جزء كبير منهم يؤمن ان الصعود الى باحات الحرم او الى جزء منه ليس حرام.
لذلك ، من يسعى الى تغيير الوضع القائم في الحرم اما يهود علمانيين يحركهم الدافع السياسي و المناكفات الحزبية، حيث غالبية اعضاء الليكود الذين يصعدون لباحات الحرم و يحرضون على تغيير الوضع القائم هم من معارضي نتنياهو داخل حزب الليكود، و اما قيادات من الصهيونية الدينية مما اعلنوا عدم التزامهم بفتوى الحاخام الاكبر في اسرائيل و لديهم تفسيرهم الديني الخاص الذي يجيز لهم الصعود الى باحات الحرم او الى اجزاء منه على الاقل.
لكن القدس هي ليست الحرم الشريف فقط، و هي ليست البلدة القديمة التي لا تتجاوز مساحتها الكيلو متر مربع . هناك استمرار في سياسة تم وضعها كجزء من خطة الون منذ العام ١٩٦٧ ، حيث نفذ منها الشق الاكبر المتعلق بالقدس، و التي اساسها احاطة القدس بسلسلة من المستوطنات التي تزيد من حجمها و تجعلها اكبر مدينه و الامر الاخر عزلها عن بقية المدن الفلسطينية. لهذا تم انشاء مستوطنة غيلو لعزل القدس عن بيت لحم من الجنوب و مستوطنة جبعات زئيف لعزل القدس عن رام الله من الشمال . الامر اصبح اكثر من ذلك حيث هناك تركيز على الاحياء المحيطة بالحرم و البدة القديمة. لذلك هناك تركيز على تغيير الوضع في سلوان، حيث يزداد النشاط المحموم من قبل الجمعيات اليهودية المتطرفه امثال العاد و عطيرات كوهنيهم ، وذلك بعد ان نجحوا في الاستيلاء على عشرات بل مئات البيوت في البلدة القديمة و الاحياء المجاورة مثل الشيخ جراح و وادي الجوز و الطور و غيرها.
الجهود التي تقوم بها هذه الجهات الاستيطانية بمساعدة اطراف حكومية التي تطوع لها القوانين و توفر لها الامكانيات تتزامن مع الضغوط التي تمارسها بلدية القدس و الشرطة الاسرائيلية على سكان القدس لكي تجعل حياتهم لا تطاق و بالتالي يجبرون على ترك بيوتهم و البحث عن اماكن بديله في مدن الضفه الغربية او حتى الهجرة خارج الوطن .
كل هذا يحدث في ظل غياب عملية سياسية حقيقة، او اكثر دقة، في ظل فشل العملية السياسية و فقدان الامل بأمكانية التوصل الى حل على اساس الدولتين مما يجعل كل الخيارات مفتوحه، بما في ذلك خروج الاوضاع عن نطاق السيطرة ، ليس فقط في القدس ، بل ايضا في بقية المناطق الفلسطينية، حتى وان كان احد لا يرغب بذلك او يحاول منع ذلك.
Dr.sufianz@gmail.com


