أهم بعدين للإنسان
والتقسيم الذي يثير فينا شعورا تاريخيا بالغبن؛ وفي ظل هذا (الربيع)، وفي ظل:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام.
في ظل لا ظل يظلنا، تجرأ الاحتلال على المناداة على الكنيست بتقسيم الحرم القدس زمانيا ومكانيا بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين.
وماذا يملك الأخوة غير الانتظار، لا "لنربي الأمل" كما قال محمود درويش، ولكن لنوسّل لعالم كبير واسع يضيق بنا!
وليست القضية قضية صلاة، فالمدقق بمشهد المصلين يراهم كأنهم موظفون لا عابدون، والذين يتقاضون أجرا يوميا مقابل تواجدهم اليومي في ساحات المسجد الأقصى، تشجيعا من الحكومة لهم.
من يريد عبادة الله، فالأرض كلها مكانا للعبادة، فأي عبادة تلك التي تثير الصراع والدم، والله في كل مكان وزمان.
من سلوان إلى رأس العمود: واد وجبل وذكريات وتاريخ عريق.
إلى جبل الزيتون، فالعيسوية وبيت حنينا، فشعفاط، فالعيزرية والنبي صموئيل..وقرى الجبال في غرب وشرق وشمال وجنوب، وصولا إلى أبواب البلدة القديمة، فأبواب ساحات المسجد الأقصى المبارك، فأبواب الحرمين، فأبواب السماء.
لم تعصف الأخطار بالقدس - كما تعصف بها الآن، فالمدينة الواقعة في مجرى الريح السياسية- التي أجلت اتفاقيات أوسلو للسلام قضيتها للحل النهائي على شرط ألا يغير الطرفان في وضعها شيئا- تلجأ لكل المؤمنين أن يصلوا للسلام فيها..فالوضع ليس ورديا كما هي حال الزخارف الوردية القديمة المنقوشة على سور القدس.
كانت جريمة حرق الفتى الشعفاطي المقدسي محمد ابو خضير الشرارة التي ألهبت انتفاضة القدس 2014، والتي ظلت مستمرة حتى كتابة هذه الأسطر، حيث سبقها تراكمات هائلة من انتهاك حقوق المقدسيين والتضييق عليهم في تفاصيل حياتهم، حيث أصبح مثلا بناء مسكن أمرا مستحيلا.
تذكرني القدس دوما بطفولتي، والسبب أنها منذ كنت صغيرا والقدس على حالها، لم تتغير غير أن الفقر زاد إنها مدينة فقيرة رغم كل هذا الغنى، تسلب حكومة الاحتلال الضرائب غير مقدمة سوى القليل من الخدمات؛ فالمقدسيون يشكلون ثلث سكان المدينة، لكنهم يحصلون على 17% من الميزانية.
وللمتأمل المتعمق، يجد أن حرب غزة اليوم وأمس وقبل أمس، إنما هي حرب القدس، فالحرب هناك ما هي إلا الحرب هنا. فمن هنا يبدأ السلام ومن هنا تبدأ الحرب ولا تنتهي.
كانت القدس تجلس قلقة على بركان قد يثور منتجا انتفاضة مقدسية سببها العنصرية البغيضة؛ وها هو قد ثار، لكن الاحتلال يخشى تطور الثورة، فيقاوم البركان بخبث عميق.
من أين الدخول؟ من جهات الأرض أم من عمق الأرض أم من السماء؟
من التاريخ والثقافة والشعور؟.
هي نفحات قدسية تاريخية ذات سحر خاص ماديا ومعنويا، حيث أن المدينة العريقة لها حواس كالإنسان تعرف بها، لها الرائحة ولها اللون ولها الطعم والإحساس والملمس، ولها شعور الدهشة والطفولة، لها هذا التاريخ الطويل الممتد على جغرافيا القلوب.
القدس أخت دمشق وبغداد والقاهرة والرباط، الحاضرة العربية الحاضرة بعمق رغم هذا السلب الذي يعتري وجودها، مدينة أسيرة شاحبة، ذات حزن نبيل، ولكن جناح يمامة تطير تمنح الزائر الأمل.
ومدينة السلام أو أو زهرة مدينة الصلاة كما غنت لها فيروز من 5 عقود، تخلو من أي معنى للسلام بعد أن جعلها الاحتلال الإسرائيلي ثكنة عسكرية، وما زال الاحتلال يخنقها يوميا ليقطع ما تبقى من زهر المدينة، فأي صلاة سيصليها المؤمن وهو مسلوب الطمأنينة، كما ينبغي لطمأنينة المصلي أن تكون!
الذهاب للقدس رحلة عذاب، بعد طول وقوف على رجلين أنهكهما الاحتلال كما أنهك القلب، الروح والجسد، وهنا تبدأ رحلة أخرى من العذاب البصري، فما أن تسير بنا المركبة حتى نلحظ مراكز الاحتلال، على أبواب الأحياء العربية المقدسية، من الرام وضاحية البريد، فبيت حنيننا وشعفاط، مركز عسكرية ومدنية تعود لسلطات الاحتلال، ولا تكاد تنظر يمينا أو يسارا حتى تصعق من هول كبر حجم المستوطنات المحيطة بالأحياء العربية من جهة، والمطوقة مركز القدس من جهة أخرى. لقد غدت المدينة وضواحيها نهبا للاحتلال، قطع الإسرائيليون الشوارع وشقوا أخرى لصالح المستوطنين مهدوا دربا للقطار دون حساب لأحد، فالمدينة في الفكر الصهيوني مدينة إسرائيلية محررة!
لقد أحكمت المستوطنات تطويقها للقدس، بتكامل مع الحواجز العسكرية، بأكثر ما في الأسورة من شبه، والسبب أن تطويق القدس بالحواجز والمراكز الاحتلالية والمستوطنات إنما يعني تهويد المدينة. تجتاز التلة الفرنسية والشيخ جراح حيث تم تأسيس فنادق ضخمة في حي الشيخ جراح، لدرجة تغيير الملامح.
مركز المدينة كما هو لم يتغير منذ 47 عاما، فلم تسمح سلطات الاحتلال بتطويره، فشارع صلاح الدين والسلطان سليمان كما هما لم يتغيرا، لا مباني ارتفعت، لكن ما إن تنظر أمامك إلا لتجد مستوطنات فقريبة في سلوان والطور، قريبا جدا من أسوار البلدة القديمة، حيث تنذ حكومة إسرائيل وبلدية الاحتلال في القدس ما يسمى بالحوض المقدس، قرب الجهة الشرقية والجنوبية لسور القدس المطل على المسجد الأقصى، حيث صادرت عدة بيوت، وتنوي بناء مبان شاهقة تصلح مهبطا للطائرات المروحية، لجذب الزوار اليهود إلى مكان الهيكل المزعوم، حيث بدأت إسرائيل بالتقسيم الزماني للصلاة في القدس، حيث تقتصر الصلاة في جزء من الصباح على المصلين اليهود، من أجل تهويد ما استطاعوا من المسجد، في طريقهم للتقسيم المكاني، لجعل الجزء السفلي من المسجد لليهود، وترك الجزء العلوي للمسلمين، في مفارقة ساخرة، فمن يملك أساسات المسجد يملكه بالكامل! علما أن هذا الاقتراح تم تقديمه في خطة بيل كلينتون لحل مشكلة القدس عام 2000.
سموها مدينة داود واستوطنوا عشرات المنازل المنثورة على جانبي الوادي، ثمة تركيز على الاستيطان تحت السور قريبا من المسجد المرواني الذي يقع تحت المسجد الأقصى، حيث يأمل اليهود أن يمنحوا هذا المسجد، ويأملون بالتالي فتح الأبواب الثلاثة المعلمة بالحجارة.
الحفريات لم تنته لا قبل احداث النفق عام 1996 قامت على إثرها انتفاضة النفق، ولا بعدها، كما أن اليهود يسعون جاهدين لامتلاك البيوت والعقارات، داخل البلدة القديمة، حتى أن آرئيل شارون رئيس الوزراء السابق امتلك بيتا هناك. ويمكن معرفة بيوت اليهود التي سيطروا عليها بأساليب غير سليمة ولا قانونية من خلال رؤية العلم الإسرائيلي وأساليب الحماية وجنود الاحتلال الذين يحرسونهم ليلا نهارا.
وراءنا مئات من شجر الزيتون انتشرت على جبل الطور المعروف بجبل الزيتون، هنا مرّ السيد المسيح راكبا أتانه قادما من أريحا إلى القدس حاملا أحلامه ودعوته، ليكشف زيف العلاقات الكاذبة بين الحاكم الغريب والمحكوم ابن البلد، وليكشف كيف أن بيت الرب إنما جعلوه مكانا للبيع والتجارة لا للصلاة، وكيف راح يقلب موائد التجار
مسجد عمر بن الخطاب هنا دلالة التعددية الدينية الطبيعية هنا لا الجبرية، كما يفعل الاحتلال من تهويد..يدخلني عمر إلى التاريخ، حين فتح العرب القدس..ثم أنثني إلى داخل "كنيسة القيامة" لأعود إلى الوراء ألفي عام!
أشعل شمعة في حب المسيح، وأتأمل اللوحات الفنية التي تحاكي مسار المسيح قادما بيت لحم حيث ولد، من الناصرة حيث أقام، فالجليل وبحرها، فأريحا، فالقدس التي كانت النهاية والبداية لعهد جديد..
كان لنا تاريخ عظيم هنا وحاضرا سيظل يكون!
كانت لنا القدس، وبإمكاننا لو أردنا أن نقول: ظلت لنا..
إن أردنا!
لنا القليل أو الكثير لنقوله وربما لنرثيه أو لعلنا نحزن ونغضب، لكن ما يضير ذلك، وهذا المحتل يفعل ما يشاء، تاركنا ربما، نتغنى بالقدس عاصمة للثقافة العربية في الخيال؛ فإذا لم تكن القدس عاصمة على التراب والصخر أولا؛ فلا نحتاج لها أن تكون سرابا..
ولكن "غضب المقدسيين" وثورتهم على الظلم، تثير فينا الأمل!
لعلنا في انتظارنا "نربي الأمل".
الزمان والمكان..
أهم بعدين للإنسان!
فماذا سيظلّ منا إن زالا!
ytahseen2001@yahoo.com


