قد نشعر بالتعاطف أو القرب الوجداني مع الشبان الأكراد والصبايا الذين يقاتلون ببسالة واضحة دفاعاً عن مدينتهم المحاصرة، وحيث الحصار هو ما يشي بوحدة الحال والتماثل: حصار بيروت والمقاطعة ثم غزة، وتقاليد الفدائيين الأوائل واليسار الفلسطيني في جنوب لبنان حيث النساء هن اخوات المقاتلين ورفيقاتهم. وحيث من هذه المدرسة الفلسطينية في السبعينيات إنما تدرب وتعلم وتخرج عبد الله اوجلان وقادة الحركة الكردية النضالية الاوائل، كما كوادر الثورة الإيرانية حينما كان بمقدور عرفات و"فتح" احتضان هذه الثورة الأممية التي تصل حتى نيكاراغوا ضد الامبريالية الأميركية، ووكلائها في ايران وتركيا وأميركا اللاتينية.
ولكن واأسفاه فالناس والحركات السياسية والثورية لا يتغيرون في غمرة الحياة وانما يتحولون، وهكذا كيف يكون لنا ان نشعر بوحدة هذه الحال مع اكراد كوباني عين العرب او البشمركة، من خلفاء واحفاد الملا مصطفى البرزاني اذا كان الحال لم يعد واحدا ولا هو نفسه؟ ان كانت غزة لم تجد لها نفس هذه الأم الرؤوم التي ترعى أشقاءها وترحمها، بينما يجد الاكراد في كوباني واربيل حلف تقوده الامبريالية يدافع عنها ويلقي اليها السلاح والطعام والدواء، بينما المرة الأولى التي تشكل فيها حلف دولي لمساعدتنا كانت حينما ارسلت اميركا وفرنسا وايطاليا سفنها الحربية لكي تحرسنا، تحرس مراكبنا في الطريق الى منافي اخرى بعد بيروت. وقل لي عن اي ازمة نشأت اقل لك من انت وقل لي من صديقك اقل لك من انت. وهل لنا ان نكون جزءا من المخطط الجديد اذا ما انتصر الحلفاء والاكراد من اعادة وصل كرد سورية بكردستان العراق، التي ستكون البديل او الموازي لاسرائيل الجديدة في خاصرة تركيا اردوغان وايران والشرق؟ بعد انتقال ميدان المعركة من الصراع العربي مع اسرائيل الى العمق الآسيوي، واستنفاد دور اسرائيل القديمة على أية حال؟.
لكن الا يطرح او يقود هذا التصور الى استنتاج او تقييم مفاده بالأخير بأن يكون موقفنا اقرب الى الاعتقاد او الامل بانتصار داعش او الدولة الاسلامية في هذا الصراع؟ اذا كان من شأن ذلك تقويض وانهاء المصالح الغربية في المنطقة وبما يعني ذلك او يؤدي الى حسم الصراع الممتد منذ محاولات فخر الدين المعني الثاني، ومحمد علي وظاهر العمر، اعادة لملمة وتنظيم شتات العنصر العربي والاسلامي المحلي في اطار دولاني، وبناء الكونفدرالية الموحدة انطلاقا من هدم وتحطيم التقسيمات، التي وضعها الغرب فيما يسمى بسايكس بيكو. وبالتالي إفساح المجال لاول مرة منذ سقوط الخلافة الإسلامية بعيد الحرب العالمية الاولى، لإرساء قواعد بناء الدولة العربية وفق الخصائص الطبيعية لهوى السكان المحليين، واعتمادا على تقاليدهم وإرثهم الديني والفكري الخالص. او حتى اقله من الناحية البراغماتية والسياسية الخالصة إبداء التعاطف مع هذه القوة الجديدة، لما يمكن ان يؤدي تهديدها للنظام القديم والمهترئ في الشرق، الى اعادة خلط الاوراق او لنقل تجريف التربة وتقليبها بما يحمله ذلك من افساح الطريق، او تمهيد هذه التربة الى تبلور الدولة القومية الحديثة في الشرق على غرار ما حدث في الحروب الدينية خلال القرن السابع عشر في اوروبا، وحيث من رحم هذه الحروب الدينية التي استمرت مئة عام ولدت في القرن الثامن عشر الدولة الاوروبية القومية الحديثة. او اذا كان يمكن ان ينشأ عن هذا الجرف الكبير بالنسبة لإسرائيل ربيبة الاستعمار القديم والتي تفكر باعادة تعريف نفسها على انها الدولة اليهودية وليس اسرائيل العلمانية،
بيد ان هذا التصور هو في بعده الآخر على طريقة دع كل ما هو منهار ينهار، انما يطرح على هذا التحليل او التصور معضلة اخلاقية لا يمكن بأية حال تجاوزها او القفز عليها. فكيف لنا ان نرى الى هذا التحول او التطور على انه يمكن ان يحمل الخير للمنطقة او لنا نحن الفلسطينيين، اذا كان من الصعب علينا ان نغض الطرف من الناحية الأخلاقية على ما ترتكبه داعش من فظائع؟ وهي الفظائع التي عانينا نحن انفسنا منها على يد اسرائيل وكنا ولا زلنا اشد ضحاياها.
ان "العنف الثوري" الذي تحدث عنه لينين وماوتسي تونغ والجنرال جياب وجيفارا وجميع اولئك المخلصين من آباء الثورات على محور التاريخ، ولا يزال هو الموروث الرئيسي الذي وسم هذا التقليد الثوري للفدائيين الفلسطينيين في مهاد الثورة الفلسطينية، وبلغ أنقى طهارته الأخلاقية في حروب غزة الثلاث الأخيرة، حين استطاعت المقاومة الفلسطينية وبالرغم من حجم المذابح والفظاعات الاسرائيلية ضد المدنيين، الحفاظ على هذه التقاليد وتفوقها الاخلاقي على اسرائيل، وهذا بخلاف الارهاب او العنف المذهبي او الطائفي الذي يجعل من الناس هدفا لمجرد انتمائهم الديني، ويتحول الى قتل على الهوية. وهو ما يحدث اليوم في الاحتراب الداخلي والاهلي في سورية والعراق واليمن ولبنان على وجه الخصوص، ويبرز تنظيم الدولة الاسلامية كطرف رئيسي فيه، وهو ما يهدد بإغراق المنطقة في بحر من الدماء وقطع الطريق على اي تحول عقلاني يمكن ان يخرجها من هذا الوحل.
وإذ تبدو أزمات الشرق اليوم، وفق هذا التوصيف إشكالية في تناقضها او معضلة لا يمكنها الانفتاح على اي حل في المدى القريب، بالمعنى الذي يتداخل او يشتبك فيها البعد السياسي بالأخلاقي، فإن التجسيد الوحيد الذي يفضي إليه هذا الوضع حيث الحروب الدائرة، سينطبق عليها الوصف بأنها حرب الكل ضد الكل، هو التمزق في الوعي او شقاء الوعي السياسي.
فهل نحن مع الحوثيين في اليمن اذا كان الحوثيون هم حلفاء ايران وسورية وحزب الله وهو محور المقاومة ؟ ام اننا يجب ان نعود الى تسمية الاشياء بأسمائها حتى لو خاطرنا بالارتكاس الى استعمال مفردات طائفية، من قبيل العودة الى مفهوم واصطلاح "القوم السني الاكثري"، الذي تحدث عنه قبل اربعين عاما ذلك المفكر الماركسي السوري ياسين الحافظ، من انه لا يمكن الحديث عن اي تقدم من خارج هذا القوم السني الاكثري. وهنا يمكن ان يقودنا التحليل الى الاصطدام مرة اخرى بالمعضلة التي يطرحها التحول التاريخي في الاطار السني، اذا كان استبعاد التيار الوسطي المعتدل في الاطار السني ممثلا بالإخوان المسلمين في مصر، لا يقود الا لخيار وحيد هو داعش، التي تتفوق اليوم على امها القاعدة عسكريا وتنظيما وماليا وجاذبية. وهي الخطيئة الكبرى التي يتحملها الغرب في غض الطرف ولا يزال عن الثورات المضادة الانقلاب على الربيع العربي.
ولقد كانت الضربة الافتتاحية كما تعرفون تتمثل بالهجوم على العراق واحتلال العراق القومي العلماني باسم الحرب على الإرهاب، والذي سيؤدي الى ازدهار الارهاب ونشوء ابو مصعب الزرقاوي، الصورة الواقعية في الشرق، المضادة للصورة الهوليوودية الممثلة برامبو الشهير والخيالي، ابو مصعب الزرقاوي الذي سوف يتفوق على أستاذه في الطريقة اسامة بن لادن، كما تفوق ابو بكر البغدادي على سلفه الزرقاوي.
وكانت الضربة الثانية التي ستقصم ظهر الهلال الخصيب قوس الازمة القديم زمن جيمي كارتر العام 1979، هي فتح باطن سورية موطن الفكرة القومية العروبية القديم، ومن دون ان يقوى المحور التركي القطري الاخواني على الاطاحة برأس النظام في سورية، فأن الانقسام والاستقطاب الاقليمي بين المحور الايراني والتركي القطري الاخواني، بدل ان يجد الطريق الى تكامله ضد العدو المشترك، افسح المجال لتسلل داعش للسيطرة على الجزء الاعظم من الهلال الخصيب، ويقيم دولته وخلافته. فيما كان الانقسام والاستقطاب الاقليمي يفكك اواصر التوازن العالمي ويهدد بإعادة شبح الحرب الباردة بين روسيا والصين والغرب.
وحيث يبدو من الواضح اليوم ان العالم كما القوى الإقليمية لا تواجه هذه الدولة الجديدة بصورة متحدة وانما مفككة، وحيث الكل يراقب ورطة باراك اوباما اميركا والغرب معزولا، ليواجه مصيره في معركة كوباني او عين العرب، وبينما تحجم تركيا عن التدخل لمساعدة الاميركيين تمتد ايران الى باب المندب لتطويق الخليج العربي والسعودية تمهيدا لاخراج الأميركيين.
بهذا المعنى هذه الازمة هي الاكبر على الصعيد الدولي منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر، حين هددت جيوش محمد علي وابنه ابراهيم باشا التي وصلت الى تخوم الاناضول بإسقاط الامبراطورية العثمانية، والاستيلاء على تركة الرجل المريض من جانب محمد علي وحيدا وبالتالي خروج الشرق او نجاته من تهديد الغرب. في ظرف تاريخي يبدو فيه ان مصير الشرق وربما العالم يتقرر مصيره الحاسم الآن، الفرصة التي يشكل ضياعها ان حدث تمزقا تاريخيا في وعي الشرق. وهذه مناسبة ان نذكركم مرة اخرى بقول امبراطورة روسيا كاترين، ان مفتاح بيتها يوجد في سورية. وقول آلن فوستر دالاس ان التوازن العالمي يتقرر مصيره على من يسيطر على سورية. وهذه هي المسألة ان المعركة لتقرير هذا التوازن بدأت الآن.


