أكثر من شهر مر على معركة عين العرب، أو ما يسميها الأكراد "كوباني"، دون أن يتوقف النزاع هناك وبالرغم من أن الولايات المتحدة الأميركية التي تقود تحالفاً دولياً ضد تنظيم "داعش"، لم تتمكن إلى اللحظة من حسم المعركة.
حظيت عين العرب باهتمام إعلامي كبير جداً، حتى أن المتفحص والمتابع لمواقع إخبارية وتحليلية، مل من كثرة الأخبار التي تستحضر المعركة الجارية بين "داعش" من جهة، والأكراد والمناصرين لهم من جهة أخرى.
وثمة من تناسى مع الأسف أن عين العرب تشكل واحدة من المآسي التي يتعرض لها المدنيون، سواء في سورية أو العراق، مع ذلك فإن الإعلام واظب بقصد أو عكس ذلك، على تغطية "كوباني" كما لو أنها حرب تحرير مرتبطة بزوال الإرهاب واستقرار المنطقة.
نعم عين العرب استراتيجية للجميع، أولاً لتنظيم "داعش" الذي يرغب في السيطرة على هذه المدينة السورية حتى يستأثر بشريط طويل على الحدود التركية- السورية، يؤمن وصول الإمدادات "الداعشية" إلى العراق عبر مناطق يسيطر عليها هذا التنظيم.
هذه المدينة إذا سقطت بأيدي "الدواعش" فإنها ستكون ضمن إطار جغرافي "داعشي" متماسك وكبير، خصوصاً وأن عين العرب تتبع محافظة حلب التي تبعد عنها حوالي 150 كيلومتراً، لكنها قريبة من شرقي محافظة الرقة وغرب حلب التي يسيطر عليها جميعاً هذا التنظيم المتطرف.
أما الأهمية الأخرى عند تنظيم الدولة الإسلامية، فتكمن في الأيديولوجية التي يتبناها "داعش" والهادفة إلى توسيع النفوذ الإسلامي "الداعشي" في إطار هذه الدولة التي تم الإعلان عنها أواخر حزيران الماضي، والتي تتناقض أفكارها مع أي مشروع، سواء عربي أو كردي.
على هذا الأساس أراد "داعش" ضرب المشروع القومي الكردي الذي تشكل "كوباني" عماده، كونها المدينة الثالثة بعد كل من القامشلي وعفرين، بعدد سكان يصلون إلى أقل من نصف مليون شخص أغلبهم من الأكراد، في حين يتبع المدينة ما لا يقل عن 382 قرية.
هذا البطش الشديد ومحاولات السيطرة وتأمين مناطق استراتيجية، مكن "داعش" وإخوته من التنظيمات المتطرفة، من السيطرة على أكثر من 600 كيلومتر من شرق سورية إلى غرب العراق، وحيث يعتبر هذا التنظيم المتطرف الآن هو الأقوى في سورية، حتى أنه تفوق على الجيش الحر وهزمه في أكثر من منطقة، واستولى على أهم مخازنه الإستراتيجية للسلاح.
هذا عن أهمية عين العرب عند "داعش" والأكراد الذين يقاتلون باستماتة حتى لا تسقط هذه المدينة وتشكل اللكمة القوية لضرب المشروع القومي الكردي الذي يحلم بتجسيد قيام الدولة المستقلة، أما عند الأميركان فهناك فلسفة تتعلق بعين العرب وأبعد من ذلك.
الولايات المتحدة الأميركية التي راقبت "داعش" عن كثب منذ بداية ظهور هذا التنظيم في أعقاب النزاع السوري عام 2011، لم تقم بأي فعل من شأنه أن يفرمل تقدم "الدواعش" في كل من العراق وسورية، وظلت على هذا الحال، إلى أن أصبح التنظيم الإرهابي يشكل تهديداً ليس لها فحسب، وإنما لدول كثيرة.
وبصرف النظر إن كان "داعش" صناعة أميركية أم غير ذلك، إلا أن الولايات المتحدة لم تتبن استراتيجية واضحة في طريقة تعاملها مع هذا التنظيم الإرهابي، ويتضح ذلك من التصريحات الأميركية التي تقول تارةً إن الحرب على "داعش" سيطول أمدها، وتارةً أخرى أن عين العرب من المحتمل أن تسقط بيد "الدواعش".
واهم من يعتقد أن الإدارة الأميركية غير قادرة على إنهاء كل هذه المآسي في سورية وغيرها، فهي قادرة على فعل الكثير لكنه يعوزها الإرادة والتوافق مع مختلف الأطراف الدولية المنخرطة في النزاع السوري، وهذا ما يفسر مواصلة القتال هناك.
منذ أن سيّرت واشنطن تحالفاً دولياً لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، ونفذت غارات جوية في الثامن من آب الماضي، لم يتوقف هذا التنظيم المتطرف عن مواصلة القتال في عين العرب، مع العلم أن تكلفة الحرب الدولية الجوية عليه بلغت أقل من نصف مليار دولار بقليل.
وبما أن الحل السياسي في سورية غائب أغلب الوقت، فإنه مع محاربة "داعش" سيبقى غائباً أيضاً، الأمر الذي استفز الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، الذي حذر مجلس الأمن الدولي، من أن الرد العسكري وحده على تهديد الدولة الإسلامية، قد يؤدي إلى مزيد من التطرف لدى جماعات "داعشية" أو غير ذلك.
إذن، لا يحضر في هذه اللحظة سوى الخيار العسكري، وطالما تقول الولايات المتحدة إن الحرب على الإرهاب قد تطول، فإن ذلك قد يعني أن معركة عين العرب ستطول أيضاً، قياساً ببدء المعركة فيها وفي ظل عدم حسمها لصالح أيٍ من أطرافها.
وصول النزاع إلى مرحلة من عدم اليقين ومواصلته بهذا الشكل، يعني دماراً تدريجياً للبلاد وأهل العباد، فلا فرق بينه وبين القنبلة النووية، باستثناء أن الأول يحتاج إلى مرحلة طويلة نسبياً وصولاً إلى الدمار الشامل، أما القنبلة النووية فإن مفعولها آني وسريع.
اشتداد النزاع بهذه الطريقة وإطالة أمده في سورية والعراق، يعني الخروج الحتمي لهذين البلدين عن دائرة التأثير في منطقة الشرق الأوسط، واستبعاد عودتهما القوية إلى النظام الإقليمي العربي إلا عبر سنوات من الكدح والعمل والاستقرار السياسي والاقتصادي... إلخ.
ربما القصد من إطالة الحرب في عين العرب وغيرها من المناطق الأخرى، هو إبقاء بؤر التوتر مشتعلة وإضعاف كافة أطراف النزاع، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على سوق السلاح الأميركي الذي ينشط خصوصاً في أوقات الحروب وافتعال الأزمات.
بقاء الحرب على أشدها، سيعني استمرار تدفق السلاح الأميركي، ويعني أيضاً رغبة الولايات المتحدة في التأكيد على الشرق الأوسط الجديد القائم على الفوضى الخلاقة، وعلى نزاعات داخلية تأكل الأخضر واليابس وتمهد لتحول الدول القوية إلى فاشلة.
Hokal79@hotmail.com


