خبر : أيام الماء عن الطفولة والشباب ...بقلم: المتوكل طه

الثلاثاء 21 أكتوبر 2014 06:28 م / بتوقيت القدس +2GMT




أُطلقُ سنّ قلمي لينعف ما يشاء من البعيد، دون قيدٍ أو شرط، وليلهث كفرسٍ برِّيّة في السهوب، حتى ترنخ أعرافها وتنقط بالعسل المالح، ومثل الريح الغضبى الصرصر أو الأنسام، لها ما تشاء وكيفما تشاء، فأنا روح حرّة كالريح! ولن ألتفت لأعيد قراءة ما انكتب، فليكن ما يكن؛ ثلجاً أم ناراً أم هباء أم عفاريت. ففي هذه اللحظة أشعر بخفّةٍ كأنني أطير، ثم أهبط كأنَّ شيئاً يعضّ قلبي، ويجعلني مليئاً بالمرارة والسخط والإحساس بالقهر.

وثمة مليار سبب لهذا القرف الذي يحيط بنا من كل فجّ. وفجأة أتحسس رسغي بعد أن أغلقتُ التلفاز الذي ينعى إلينا، في كل ثانية، ألف ضحية وكارثة، وأكاد ألمس القيد الذي انغرس في اللحم يوماً، فانتفخ والتهب، حتى إذا لمسه الماء أفقد عقلي! لكنني أجد رسغي، الآن، قوياً سليماً. فألمس عيوني التي عصبوها عشرات المرات، إلى أن عايشت أيام المعرّي ووصلت إلى سويداء بصيرتة، فأدركتُ أنني كزرقاء اليمامة، وأرى الإبرة عن بُعد ميل! ثم ذهبتُ إلى رجليّ التي كسروا الهراوات عليهما، غير مرّة، وتورّمتا حتى شعرت أن الزنزانة ستضيق بانتفاخهما، وأكاد أكلز عَرجَاً، فنهضت، فوجدتني غزالاً يافعاً لا يلوي على شيء، يتقافز كصدر الفارسة السادرة في الانطلاق إلى ذُراها. وأمضي إلى عقلي، فأجد جمجمة تحميه من نطاح الجدران والقرون والصخر، فأعبث بأصابعي وأفردها بين شَعر رأسي، فتفيض بمشاهد الطفولة والشباب، مروراً بأيام الجامعة والسجن وصولاً إلى هذه اللحظة المُثقلة بالحزن الجليل.

وأقول لنفسي: ما جدوى أن تعود إلى تلك الأيام؟ فلا أجد جواباً سوى أنها جزء منّي ومن شعبي وأهلي، ولها قداسة الماضي الذي يحمل خُلاصةً ما، ولديها القدرة على الإشعاع، بحمولتها المأساوية أو الجسورة، لعل جزءاً منها يساهم في مراكمة الرواية الكبرى التي نؤلّفها جميعاً، منذ ما يقارب المئة عام، بمعنى أن كل فلسطيني مُطالب برواية حكايته، من واقعه وزاويته واختصاصه، دون أن يُصاب بالصَّغار أو يشعر بتفاهة قصّته، أو بتواضعٍ لتواضع ما اجترح أو أحدث! وربما يكون هذا النداء موجّهاً لمَنْ يستطيع أن يكتب ويروي ويحكي ويؤصّل ويؤرّخ ويحفظ كل برتقالة أخذوها، وكل ذرة تراب سرقوها، وكل حجر صادروه، وكل جذر اقتلعوه، وكل هراوة وقعت، أو رصاصة قتلت، أو قضبان خنقت، وكل حاجزٍ أمات وقهر، وكل حصار أذلّ وحَشر، وكل إهانةٍ ومَنْعٍ وكلمة ونأمة وحركة وصورة وصوت.. أساءت أو جرحت أو نفذت! حتى تعرف البشرية أي مخلوقات هذه التي تحتلّنا وتستلبنا وتصادر أيامنا. وحتى يعرف العالم كم هو متواطئ وحقير وجبان وصامت ومتآمر. وحتى يدرك العرب والمسلمون كم كانوا، بخوفهم، مشاركين في ذبحنا وفجيعتنا وهلاكنا. وحتى يعرف الجيل الطالع كم دفعنا وخسرنا وقدّمنا، وكم هو مجرم وفاشيٌّ هذا العدو الذي يجب مجادلته حتى النهاية، وعدم مسامحته، أو نسيان ما اقترف وآذى وأمات، أو على الأقل عدم تجاوز مقارعته حتى يتخلّى تماماً عن عنصريته وجنونه ونازيّته، ويعود من حيث أتى.

أقول هذا، والكراغل التي بعثها الساحر من تماثيلها الحجرية تطير من جديد في سماء البلدة، تنفث نارها وتصبّ جحيمها على البنايات والناس في بيوتهم! وأراني صبياً، في التاسعة، أُمسك يد أخي الكبير، وأمشي فوق الشوك والحصى المسنّن، على غير هدى، نركض حيناً، ونهرول حيناً، حتى لا تلحقنا الطائرات، التي ترمي منشورات تدعو أهالي البلدة إلى تركها، وأن يمضوا شرقاً...

هذا سرب طويل من النازحين لا ينتهي، ولا يكاد حتى هذه الساعة! فالنكسة لم تنته بعد! غير أن المرأة التي جاءها المخاض، ونزّ دم رحمها، قد أخذتها النسوة تحت الخرُّوبة لتضع حملها الذي كان أُنثى.. وها أنذا مع الصبية أتلصص النظر، من وراء البطانية التي التفت سوراً حولها، لأرى كيف تلد النساء!

ماتت الوالدة تحت الخروبة وغطّى دمُها الورقَ الناشف المتساقط، وذبلت حتى حفروا لها قبراً ووضعوها، كما هي، دون صلاة أو كفن!

وعادت بعض الجموع، بعد شهرين، إلى البلدة التي كانت قد احترقت وانهدمت، وأرى أمي، رحمها الله، تدفن رأسها بين كفّيها وتجوح، وألحظ أبي، رحمه الله، يقتعد درج البيت، ساهماً لا يتحرك كأنه تمثال موزّع الأهواء، مأخوذاً بما لم أدركه.. حينها!

لكنني لم أرَ ما كانت تقصّه أمّي علينا من حكاية الأفعى الذهبية التي لاعبتني على أرضيّة المطبخ ذات صيف!

تقول: تركتك، وأنتَ ابن عام تقريباً، على جنبية فرشتها فوق الحصيرة في المطبخ، وكان شباك المطبخ مشرعاً والباب مفتوحاً، وذهبتُ أنشر الخَلقَات على حبل الغسيل في حوش الدار، ورجعت لآخذ باقي "الأواعي" (الملابس) لنشرها، فوجدتك قاعداً تغرغر ضاحكاً وتعبث مع أفعى ضخمة صفراء ذهبية، تتلوّى حولك، فتلاعبها وتدور حواليك وتلفّ فتكركر، فصرختُ وأُغمي عليّ!! وعندما استيقظت، وحولي أبوك والجيران، هرعت إليك، فرأيتك مبتسماً.. ولا أثر للأفعى! ومكثتُ يومين أبكي، لا أدري فرحاً أم خوفاً.. غير أن خيطاً عريضاً ذهبياً، كأنه نمش لزج أو دهان خفيف قد تركته الأفعى على فمك وذراعيك ورأسك، هو أثر الأفعى عليك، فقمت بغسلك مرة إثر مرة، ولم يغب ذلك الأثر إلاّ بعد أشهر طويلة.

والأفعى لم نعثر على أثرٍ لها حتى اليوم، لكن أباك ذبح عجلاً ووزّعه عقيقةً عنك، حتى يحفظك الله من كل سوء.

سمعتُ هذه القصّة مئات المرات، وما زلتُ أدّخر امتناناً كبيراً لتلك الحيّة العظيمة التي لاعبتني في غياب أمي، وتركت على شفتيّ ذهبها ووهج ثوبها المجيد.

*

في البيت أو "العَقِد"، كما يسميّه أهلنا، كتب قديمة، ذوات جلد مُقوّى، غامق وعتيق، مصفوفة على ألواح تم تثبيتها مكان "حامل" الفراش واللّحف، ومعظمها من أمهات الأدب والتراث والتاريخ والفقه والشِّعر، ويعود بعضها إلى جدّ أبي الشيخ صالح طه النزّال الأزهريّ الذي كان خطيباً للمسجد العمري، وبعضها جلبه والدي سعيد البكر- رحمه الله- من يافا أو نابلس أو القدس، وأرى أشقائي وقد حفظوا ما في بطون تلك المجلدات، وراحوا يتبارون في الشِّعر ويتسابقون في سرد الحكايات والقصص، ويحفظون من المعلّقات والقصائد ما تمايز واختلف ونتأ، فأصبحوا مثل عائلة أدبية، والدها شاعر، وأبناؤها فراخ ذلك المفوّه الذي يقف في المناسبات، فيعجز البسطاء السامعون بما يقوله من فصاحة وشِعر وحصافة، ويصيخون له السمع باعتباره قد أمضى سبع سنوات في سجن عكا مجاهداً يحمل "السَّلَحْلَك" والبندقية، ولهذا حفروا بعض أشعاره على قوس بوابة المسجد وسط البلدة. والمعلمون في المدرسة يتوسّمون فيّ أن أقرأ دون خطأ، وأن أحفظ أسرع من أترابي، وألا ألحن في إيقاعٍ أو تهجية! ما جعلني أغوص حتى ألتقط تلك اللؤلؤة الحمراء في أعماقي، وأبعثها جمرةً ريّانةً، تساعدني على الاستجابة للهفة أساتذتي كي لا أُخيب ظنّهم في هذا الفتى الذي راح يتأتئ أُولى خربشاته الشعرية وهو في الصفوف الإعدادية الأولى، ويدفعها إلى معلّم العربية أو إلى شقيقه الكبير، ليربتا على كتفيه، أو يعيناه على إصلاح كلمةٍ هنا أو وزنٍ هناك، وليكّرساه "شاعراً" واعداً، عليه أن يحمل عصا الشِّعر السحرية ويكرز بها في الحياة.

وفي ظهيرة أحد الأيام، رحتُ أتصفح تلك الأمهات الصفراوات، ويبدو أنني مددت يدي لأحمل بعض المجلدات، فصادف وجود عقرب هناك، فعقصني في إصبعي، فصرختُ، فحضر بعض إخوتي، وقتلوا ذلك العقرب الذي كان مثل بروش أو نيشان ذهبي أصفر! ويبدو أنه لم يتمكّن من إصبعي تماماً، فشقّوا عقلتين منه بشفرة حتى سال الدم مع السمّ، وعرّضوه على نار البابور حتى كدتُ أموت ألماً، ولفّوه بمزقة، وهكذا كان العقرب أول ثمنٍ لفتحي كتاباً ثقيلاً!

*

ولدتُ في الحقل، ذات ربيع شمسي، ولما قامت أمّي لتجفّف مشيمتها، كان عمري قرابة السبعين عاما، وراحت ترضعني لباء الفرس ونسغ الغابات وعرق الينابيع وعسل الصخور، ومسحت جسدي بزيت طفاح لاذع، ولفّتني بموجة شالها المزركش بالزهور وعروق الدوالي والأرجوان، فأقاموا لميلادي ليالي الفرح وموائد الزاد، فشربتُ الأغاني من فم النايات ورعاة النغم المذبوح بالرمش والعطش، وكان المكانُ فاتناً الى حد الخوف. وأصبحتُ كهلاً، وما إن دخلت المدرسة حتى اجتاحوا البلدة، وكان أبي الشاب يحمل جناده وبندقيته، ليحمي الزرع والقمر والضفائر، فسجنوه وقتلوه، وشردوا البلدة، وصار دم الحوامل ياقوتاً يرهج بحمرته الساخنة في الطرقات .. وأضحيتُ شاباً، وبحثتُ عن ذاتي بضع سنين، حتى وجدتها في الخيام والأحلام والحنين الجارف، وبدأ النشيد .

*

استيقظتُ على وجعٍ في ذراعي، فتحسستُ جذورَ البرقِ، وَلمستُ نتوءاً، فكشفتُ المَنامةَ لأجد َ وَشماً ذهبياً طازجاً يفحُّ بِكُحْلِهِ ودمِهِ، فَهَقَ في عينيَّ فأعشاهما، وأمعنتُ فيه النظَر، وتبأّرْتُه فسطعَ لي بحدودهِ الدقيقةِ، وتبيّنتُه؛ فكان الماء!

المزمارُ جارحٌ فوّاحٌ، والنافذةُ شغفٌ يتحّرقُ أمامَ المصقولةِ، ويمسّدُ شبكةَ الديناميت بِوَلَهِ الأصابع المُلتَهفة. كم أنتِ كاويةٌ أيتها المياهُ المكثفةُ، وكم من خيالٍ جامحٍ تحتاجُه الأيدي لينفثَ هذا المحبوس؟!

أتذكر بعد خمسة و ثلاثين عاماً عصرَ التينةِ في المبنى القديم، كانَ الغروبُ عسلاً برّياً فائضاً، والبنتُ القروية المبذولةُ ترتعشُ من اللغة الجديدة. كُنّا نتبادلُ دورَ الصياد والطريدةِ بوعيٍ مكشوف، ودَهَمَ الظلامُ خَشاشَ الفروعِ وستَر القُبْلة البريئةَ، وأضاء بفعل روح التفاحةِ التي ضَوّعت على الجدرانِ والدرجِ والطريق إلى البيتِ نجوماً صغيرة ً وندى.

العشقُ أو وَهْمُ النظرةِ دَفعنا إلى الأناقة البسيطةِ التي صاحبتْها المُفارقةُ المُضحكةُ، كان الوعلُ فينا مأخوذاً بِملْحِ فخذيهِ يترسُّم خُطى الأبنوسِ أو الرعدِ، وشردَ في سكونهِ على امتدادٍ لا ينتهي، يُعريّه لِيَصلَ إلى مغارةِ البهاءِ الغامضِةِ التي تخطفهُ مُتعثراً، ويصحو مع نأمةٍ عاليةٍ من المُعلّم، فيرعوي ويُصلحُ مقعَدة النادي المسروق، ويعودُ تدريجياً ليتسلَّقَ سواحلَ الحليبِ والعرقِ. كم كانت طاهرةً تلك الأيام، وكم كانت مؤمنة!

على مدخل المكتبةِ أصابته الرعدةُ من اندفاعةِ فمِ الغزال، تلعثَمَ فَمُهُ وارتبكت يداه، وأرادَ أنْ يَلُمَّ كوكبَ الماءِ بكل صحونهِ وملاقطِهِ، كان آليّاً وَوَجِلاً! وهذا، ربما، ما أبقى الكوكبَ مُنطفئاً على رغبةٍ منه للمذبحة.

ما زلنا أطفالَها الملكيين الذين ذَرعوا شوارعَ الصنوبرِ طَمَعاً في تلك الزرافةِ التي ما إنْ تَطَأ الأرضَ حتى ترتبكَ الدنيا ويكونَ الزلزال. والذين صهدتِ الحجارةُ تحت أقدامِهم اليافعةِ في ليلٍ تقطَّرَ ناياً وانشراحاً ومواعيد نبيذٍ مع قمرٍ ذاب على سطوح القرميد والغَبَش! أين ذهبتْ عذوبةُ تلك الليالي؟ مَنْ رأى تلك الأيامَ فَلْيُسلِّم عليها.

ما إنْ تدخلِ المقصفَ حتى يُجَلّلُكَ الدخانُ والضوضاءُ، كأنكَ في خَليّةِ الخُرافةِ الساطعة، أو في حمأة آخِرِ المعاركِ الفاصلة، كأنّ المُتحدثين يركبون أفراسَ المَعبد، وينافحون عن آلهةٍ مجروحة، إنه أُتونُ المرجلِ الذي صهرنا أربعةَ أعوامٍ سِماناً، فغدونا نمسكُ الريحَ، ونؤَوِّبُ مع أغانيها في الزنازينِ والعتباتِ البعيدةِ، وما فتِئنا نقفُ على أرضِ المقصفِ الراسخةِ التي كشفت لنا عُمقَ سذاجتِنا وروعةَ فطرتِنا ورُعبَ ما في هذا الكونِ من جنونٍ وصوفيّةٍ وتأويلٍ وذهول.

وافتتحت بيرزيتُ النشيدَ! وكانت القصيدة...

النقوشُ على السيوفِ والجدرانِ كلماتٌ ووجوهٌ وأيقونات، ولها المهابةُ والشُعلةُ والُمعلَّقةُ المتأرجحةُ على الصدورِ وفي خرير الدم الحُرّ. ولبعضِها قَسَماتُ آبائنِا

وسجاياهُم الحميدةُ أو سهوةُ أمهاتِنا الراضياتِ وخشوعُهنَّ المُطمئِنُّ المُريح. ولمعلمي كلُّ أشجارِ جنّةِ العريف والشهداءِ والقُبةِ الباقية، ولنا منهُ أن تُمرعَ الأندلسُ في أحلام المدارك، وأن نؤصّلَ الحقائبَ على وعدٍ حاسم، وأن نحملَ صخرتَنا إلى الصليبِ أو نجعلَ ظلَّها بعيدا ً إلى البحر.

على مدار ثلاثةِ عقود، انقلبَ المشهدُ التراجيديُّ الصلبُ إلى كوميديا تشي برائحةِ الدم الحرام. فقد اتكأ على حقٍّ وأخلاقٍ وحسراتٍ تكفي لاجتراحِ مُعجزةِ ما بعد الخلاص، فكيفَ وصلْنا إلى هذا الوحلِ والضمورِ والتعويمِ والانفلات؟ وكيف نحتملُ الكلامَ الذي يشيعُ الأبيضَ الباهتَ دون أن تُصيبَنا القشعريرة.. التي مسّت الحديدَ فمدَّ لسانَه على عجبٍ لا يُطاق؟

أيُّ مأتمٍ هذا الذي تُقيمونه؟ فمنذُ قرنٍ لم نبرحْ بيتَ العزاء! وما يجري كان كافياً لأنْ يحتشدَ قلبُ الرجلِ ويموت! ولا أدري هل هذه الدنيا حياةٌ أم جنازةٌ؟ أم أملٌ فقيرٌ حتى تحينَ الحياةُ، وأعني تحت التراب؟ علينا الرحمة، وليكنِ الماء!