مرتْ ستة وعشرون عاماً على تأسيس الحركة وانطلاقتها من المساجد عام 1988م، وهي سنواتٌ تغلغلت فيها في العديد من المجالات الدعوية والخيرية والجهادية والإعلامية والسياسية كان آخرها المشاركة في الانتخابات البلدية والنيابية، وكان لها ميثاقها ومنطلقاتها وأُسس عملها وإدارة شؤونها الخاصة وطرقها المعروفة في التعامل مع العالم العربي والإسلامي حيث تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف ولا تتدخل في شؤون الدول الأخرى، ولا تفتح جبهات خارجية عليها، وكانت علاقتها مع الجماعات الإسلامية الأخرى تحكمها الحكمة والوعي بالرغم من الاختلاف المنهجي..
أما علاقتها بالتنظيمات الوطنية في الوطن فقد حاولت أن تتعامل معهم بالحس الوطني والأخوي لكن هذا الحس الأخوي لم يدم طويلاً حيث وجدت نفسها مضطرة للدخول في معارك مع حركة فتح في خلافات على طريقة إدارة الصراع ومنهج التفاوض ومحاربة الفساد، حيث كانت تصر على منهج المقاومة ومحاربة الاستبداد والفساد والتفرد بالسلطة، مما جعل الصراع يأخذ أشكالاً متعددة حسب الظروف خصوصاً بعد قدوم السلطة عام 1994م، فكانت الاعتقالات الشهيرة عام 1996م، وكانت الاغتيالات المتقطعة في سنوات التسعينيات ..
ومع دخول عام 2000م وبدأ انتفاضة الأقصى اضطر الرئيس الراحل عرفات أن يواكبَ الأحداث والساحة الداخلية فأعطى مساحة واسعة لها وتصاعدت الانتفاضة في وجه الاحتلال، ومع رحيل الاحتلال من قطاع غزة صيف عام 2005م بدأت الأمور في غزة تتغير شيئاً فشيئاً حيث تفرغت الساحة من العدو الصهيوني وترك مساحة واسعة للسياسة لتأخذ دورها فكانت الانتخابات البلدية وفوز حماس فيها وكذلك الانتخابات التشريعية 2006م، مما جعل الصراع بين الحركتين يأخذ أشكالاً أخرى حيث كانت الأحداث الدامية في يونيو 2007م، وخلت الساحة الفلسطينية لها في الحكم وإدارة القطاع..
وقضت حركة حماس ردهاً من الزمن في كرسي الحكم وهي لا شك فترة هامة في تاريخ الحركة وتجربة جديرة بالتفكير بها ودراستها ونقدها واستخلاص العبر والعظات منها، وها هي تغادر الحكم وتعود إلى ما كانت عليه وإن لم يكن بالصورة الماضية، حيث تركت عناصرها وأفرادها وقيادتها في مواقع المسؤولية الحكومية وفي مفاصل العمل الوزاري، وهذا الذي يتطلب منها أن تفكّر ملياً عند الخوض في معركة انتخابية أخرى من مراجعة للشعارات والبرامج الانتخابية..
كان من المفترض أن تجري بعد كل حادثة أو واقعة العديد من المراجعات واللقاءات والمحاورات لاستخلاص الدروس والعبر وعدم تكرار الأخطاء، ومراجعة دائمة لطريقة التعامل مع الآخر المخالف وهل كان بالإمكان أقل مما كان، وهل كان باستطاعتنا أن نجب شعبنا هذه الويلات وهذه الخسائر وهذا الحصار، خصوصاً وأننا قد تنازلنا عن كرسي الحكم، وهل كان بالإمكان عقد المصالحة قبل ذلك بكثير، وهل نتعامل مع المواقف بنظرة واحدة وحكم مسبق؟
قَبول هذه المراجعات:
من المأمول أن تقبل قياداتُ الحركة الإسلامية بدأ المراجعات وتصويبَ الخلل والخطأ، وأن ترحب بالصوت الذي ينادي بضرورة العمل على ردم الهوة بين الواقع والمأمول، وألا تشكك في نوايا من يكتب أو ينصح، وأن تفسح المجال في الإعلام والصحف واللقاءات العامة لتقديم النصيحة والتوجيه وبيان الإصابات والعلاج الناجع والأمثل للخروج من هذا المأزق، وألا تعتبر من يسير في هذا الطريق بأنه خارج الصف وأنه خرج عن تعليمات الجماعة ويحاول تفتيت الوحدة وألا تستجلب النصوص التي تبين أهمية الجماعة وعدم الخروج عن طورها وبوتقتها..
لماذا المراجعات الآن:
قد يتساءل سائل: لماذا هذه المراجعات بالذات الآن؟
* كثيرة من المسلمات والحقائق التي نعتقد أنها مسلمات وحقائق ليست كذلك، فلابد العودة والتفكير بها وإعادة اختبار مصداقيتها والتأمل بها والتفكير فيها.
* خروج حركة حماس من الحكم ومغادرة مواقع المسؤولية يعطيها إمكانية التفرغ لمرجعات الفكر والأداء الحركي والدعوي.
* أداؤها في الحكم لم يكن على المستوى المطلوب والمأمول خصوصاً لمن نعتقد فيه أنه أمل الأمة ومستقبلها الواعد..
* تعاملها مع الآخر لا يدل على وجود حيوية في تفكيرها وتجديد في وسائلها وأساليبها..
* تعاطيها مع المتغيرات المحلية والعربية والدولية لابد من مراجعته..
* قرار السلم والحرب لم يشارك فيه أشقاء الوطن..
* القرارات الحركية لا تخضع أحياناً للشورى في المؤسسات الحركية.
* الظروف المتجددة والمتغيرة التي تحياها المنطقة العربية والمحلية تتطلب من الحركة الإسلامية أن تراجع دائماً برامجها وخططها، وهذا يتطلب من قيادات الحركة الإسلامية أن تبدأ بشكل جدي تغيير برامج الحركة، حيث إن برامج الحركة منذ التأسيس 1988م لا يمكن أن تصلح لهذا العصر..
* النظام الانتخابي الداخلي وطريقة الترشح وشروطه لابد من إعادة النظر فيها..
فقه الأولويات:
في خضم العمل الحركي وضغط الهم الفلسطيني ومجال مقارعة الاحتلال الصهيوني اختلطت العديدُ من الأوراق أمام طاولة الحركة الإسلامية، وأصبحت حائرةً هل تقدّم المقاومة أم تقدّم الوحدة الوطنية أم تقدّم دخولَ الحكم والشراكة السياسة، فالواجب على الحركة الإسلامية ألا تغفل أولويات المرحلة التي تحياها وتعيشها، فهذه المرحلة الأولوية فيها لوحدة الصف والشراكة السياسية وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أُسس وطنية مشتركة..
خصوصاً بعد خروجنا من مأزق الانقسام البغيض وحالة التشرذم التي أصابت المجتمع الفلسطيني وسنوات من الاصطفاف الحزبي والتراشق الإعلامي والممارسات التي زادت من انقسامنا وتشرذمنا في إطار المنظومة الفلسطينية المترهلة، وما تبعه من تفرد بالسلطة في الضفة وغزة، لم تصل لأدنى تطلعات الشعب الفلسطيني من تنمية وتشغيل خريجين وبنية تحتية ونهوض بالوطن، وقد غابت الطبقة الوسطى في المجتمع الفلسطيني نظراً للتفرد بالمال والسلطة من فئة معينة، وارتفعت نسبة البطالة والفقر، مما يوجب علينا أن نعيد ترتيب أولوياتنا في هذه المرحلة وأن نخرج من التنظير والشعارات إلى الواقع..
التعامل مع الآخر:
لا زالت هناك مشكلة في تعامل الحركة الإسلامية مع الآخر، حيث لم يعد من الناحية العقلانية أن تستأثر بالحق والصواب وأن الخطأ هو دائماً مع الطرف الآخر، فالنظرة الأحادية يجب أن تنتهي ونرى أنفسنا كما يرانا الآخرون، ولا نتعامل معهم كما يتعامل الأستاذ مع التلميذ، بل نتعامل معاملة الشريك مع شريكه والأخ مع أخيه، فربما جانبنا الصواب في كثير من قراراتنا وتصرفاتنا، وربنا ظلمنا الآخرين في النتيجة المسبقة الموجودة في ذهن المنتمين للحركة الإسلامية..
فتضخيم أخطاء الآخرين والتركيز عليها مع وجود أشياء إيجابية عندهم مع عدم ذكرها هو أحد مفارقات العمل الإسلامي في التعامل مع الآخر، في الوقت الذي تصف الأدبيات الإسلامية ذاك الآخر بأنه الأخ الشقيق وشريك العمل، وإن كانت هناك أخطاء عنده فلا ينبغي التعامل معه بهذا الأسلوب..
آلية اتخاذ القرار:
لكل مؤسسة أو جماعة أو حركة آلية خاصة في اتخاذ القرارات وتخضع للعديد من الإجراءات التي تضمن مشاركة جميع مستويات التنظيم في اتخاذه والتصويت عليه، فهل هذه الإجراءات هي التطبيق الفعلي لمبدأ الشورى ؟ وهل يمكن أن يتم التفكير في إجراءات جديدة تمكّن الجيل الشبابي من المشاركة في اتخاذ القرارات ؟ وهل لابد أن يستأثر في اتخاذ القرار الشيوخ وكبار القادة مع إهمال شريحة الشباب ؟
إن مبدأ الشورى هو مبدأ عام في الحكم الإسلامي أما الوسائل وآليات تطبيقه تختلف من جماعةٍ إلى أخرى وهذه الوسائل لابد من التفكير دائماً في تغييرها وتطويرها ليتم من خلالها مناقشة القرار قبل اتخاذه بدراسة مستفيضة من كافة الأطياف الحركية والدعوية..
صنمية التنظيم:
تختلف الأحزابُ التي ترجع خلفيةُ تأسيسها وعملها إلى دوافع دينية عن الأحزاب التي ترجع خلفية تأسيسها إلى الوطنية والقومية وغيرها، فالتنظيمات الإسلامية تأخذ شرعيةً من كونها تنطلق من منطلقات الدين وتستلهم قراراتها من الكتاب والسُّنة، الأمر الذي يضفي هالةً من القداسة على قيادات الجماعة وتعليماتها وتعميماتها وكأن الطعنَ فيها هو طعنٌ في الوحي والتنزيل، وهو الطريق الرئيس لاعتبار التنظيم صنماً يُعبد ويُسمع له دون مناقشة..
وتبدأ مشكلة السمع والطاعة لكل قرار يصدر من التنظيم، فليس من الضروري أن تعني الصنمية هي العبودية لغير الله بل تعني أن كل ما يصدر من التنظيم من قرار أو موقف تجاه أي حدث في العالم الإسلامي أو العربي هو الصواب وما دونه هو الخطأ، ولا يجوز تجاوزه والتفكير خلافه أو خارجه، فلا يمكن لأحد أن يفكر خارج الصندوق، ومن حاول ذلك فهو خارج عن الجماعة والصف الإسلامي..
التعامل مع الذات:
من الأمور الهامة لكل جماعة أو حركة هو ذلك الجسم من الأعضاء الذي يمثل التنظيم بكل مكوناته وكيانه، فهو الذي يقوم بنشاطات التنظيم وينفذ الأوامر ويكوّن مفاصل العمل بشتى أنواعه، فلابد أن تكون طريقة التعامل معه حسنة بعيدة عن التهميش والتغييب، وذلك من خلال التواصل الدوري واللقاءات والحوارات بين مختلف الفئات القيادية والمجالس الصغيرة لكل منطقة، الأمر الذي يشعر القاعدة بالاهتمام والانتماء للجماعة، ولابد أن تُفتح مساحة واسعة للحوار الأخوي واللقاء الأبوي بين القاعدة والقيادة، فالقيادة بهم تتحرك وبهم تناور وبهم تعمل..
ولابد أن تكون طرق التواصل ورفع المظالم والاقتراحات والشكاوى واضحة ومجدية لتجد طريقها إلى المسئولين وأصحاب الحل والعقد، وأن يتم التعامل معها بشكل جدي ليحس العضو بالاهتمام والتقدير من مرؤوسيه، ودون ذلك فهو التفسخ التنظيمي والترهل الهيكلي وفقدان الأعضاء، وألا يتركوا من يحاول ترك الصف دون مراجعة أو تواصل أو زيارة لتوضيح الأسباب والمواقف لتلك الجماعة..
أخيراً..
كثيرة هي المجالات التي يجب أن تجري فيها المراجعات والتصويبات وهي يدل على حيوية الجماعة ومدى تعاطيها مع متطلبات العصر، وهو الذي يعطي الجماعة المساحة الواسعة والرحبة في العمل والانطلاق في فضاءات أوسع مما تكن عليه سابقاً قبل المراجعات..
* إمام وداعية إسلامي.


