مما لاشك فيه أن الوزن النسبي السياسي الذي تمثّله غزة وقطاعها أكبر بكثير من وزنها الجغرافي الذي لا يتجاوز 1.5 ℅ من مساحة فلسطين التاريخية , ووزنها السكاني الذي لا يتجاوز خُمس تعداد الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات . وهذا الثقل السياسي لقطاع غزة نابعُ من عوامل عديدة بدأت من قيام دولة الكيان الصهيوني على معظم أراضي فلسطين التاريخية عام 1948 وتركّز الثقل السياسي للقيادة السياسية الفلسطينية في غزة , واستمرت مع تفّجر الانتفاضة الأولى وانطلاقها من قطاع غزة على 1987 , ثم وجود معظم قيادات السلطة والمنظمة في غزة بعد اتفاقية أوسلو وتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 , وتواصل هذا الثقل حتى اندلاع الانتفاضة الثانية المعروفة بانتفاضة الأقصى عام 2000 حيث كان لغزة دوراً بارزاً في مجال المقاومة وتطورها باستخدام الصواريخ التي وصلت إلى قلب الكيان الصهيوني , ولم يقف الأمر عند ذلك فقد خاضت غزة بمقاومتها وشعبها ثلاثة حروب متتالية منفردة مع الكيان الصهيوني بدأت بحرب غزة الأولى عامي 2008 – 2009 وانتهت بحرب غزة الثالثة عام 2014 مروراً بحرب غزة الثانية عام 2012 , دفعت غزة من خلالها ثمناً باهظاً في الأرواح والممتلكات بعد أن حملت لواء المقاومة وتحملّت تكاليف الجهاد منفردة في ظل حصار قاسٍ فرضه العدو على غزة زاد من معاناة السكان , وتحت تأثير انقسام نكدٍ بين حركتين متخاصمتين وسلطتين متناقضتين ومشروعين متضاربين أدى بدوره إلى زيادة الأعباء الاقتصادية والمعاناة النفسية للشعب الفلسطيني القاطن في قطاع غزة , هذا الشعب العظيم الذي رغم كل ذلك قد احتضن المقاومة ووفّر لها الغطاء الأمني الذي استطاعت من خلاله القيام بدورها النضالي وتطوير قدراتها الكفاحية وتعزيز قدراتها على الصمود في وجه الآلة الصهيونية الفتاكة .
ولكن هذا الوزن النسبي الكبير لغزة ومقاومتها وشعبها في المعادلة الفلسطينية السياسية لا ينبغي أن تجعلنا أن نطمس حقيقة أن غزة وقضاياها الرئيسية المتمثلة في الحصار ومعاناته والاحتلال واعتداءاته والانقسام وتبعاته هي جزء من القضية الفلسطينية الأم التي تسببت في كل القضايا الفرعية الأخرى للشعب الفلسطيني والتي أدت إلى معاناته في كافة أماكن تواجده سواء في داخل فلسطين المحتلة عام 1948 وما يلاقوه من تمييز وطمس لهويتهم الوطنية وسرقة لأراضيهم ... , أو في مخيمات اللاجئين في دول الطوق العربية حيث الفقر ومعاناة اللجوء والحنين إلى الوطن ... , أو في الشتات في شتى بقاع الأرض حيث المصير المجهول للكثير منهم ولأبنائهم ... , وهذه الحقيقة هي التي تعيدنا إلى الأصل في معاناة جميع الفلسطينيين في الوطن والشتات , وهو الأصل في القضية الفلسطينية المتجسدة في التهجير والاستيطان والاحتلال , حيث طُرد شعب من أرضه وجيء بشعب آخر ليحل محله واستيطان أرضه واحتلالها وبالتالي لا بد من تفكيك هذا الكيان المحتل وإعادة الشعب المهُجر والمحتل إلى أرضه وبلاده وتحريره من الاحتلال والسماح له بتقرير مصيره بنفسه على أرضه وفي وطنه .
إن فهم هذه الحقيقة يعيدنا إلى الوضع الطبيعي للقضية الفلسطينية التي تمّثل حالة غزة جزء منها وليس العكس فلا يطغى الفرع على الأصل . ويعود الهرم المقلوب إلى وضعه الطبيعي بوجود قاعدته أسفل الهرم , وهذا يقتضي التركيز على الهوية الفلسطينية الوطنية الجامعة للشعب الفلسطيني بعيداً عن الهويات الحزبية أو المناطقية – كما ظهر في الإعلام الحزبي في السنوات الأخيرة لاسيما خلال الحرب على غزة – وهذا يعني أن لا نضخم الهوية الغزاوية ونبرزها كأنها هوية مستقلة عن الهوية الفلسطينية , وكذلك لا نقلل من التجربة الوطنية الخاصة التي تشكلّت في غزة عقب انفصالها جغرافياً عن فلسطين بعد حرب 1948 , ولكن في إطار التجربة الوطنية العامة .
وتغليب العام على الخاص في القضية الفلسطينية يتطلب أن نضع المقاومة الفلسطينية بخصوصيتها الإسلامية المتمثلة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي في سياقها التاريخي الصحيح خاصة وأنها تمثل العمود الفقري للمقاومة الفلسطينية منذ سنوات عديدة , وهذا السياق التاريخي للمقاومة يبدأ منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين وبداية ظهور المشروع الصهيوني ومن ثم إنشاء دولة " إسرائيل " عقب الحرب العالمية الأولى , وكحلقة متواصلة من حلقات جهاد الشعب الفلسطيني وقواه الفاعلة التي تختلف هويتها من زمن لآخر , وتختلف ساحاتها من مكان لآخر داخل الوطن وخارجه وفقاً لظروف ذاتية وموضوعية عديدة , وبالتالي هذا الاختلاف الزماني والمكاني للمقاومة الفلسطينية التي شاركت فيها مختلف القوى الفلسطينية ذات الهويات الأيديولوجية المختلفة ينبغي أن يجعلنا نتواضع فلا نقصي أحداً من الكل الفلسطيني مهما كانت حجم مشاركته في النضال الوطني حالياً أو في السابق .
ورغم الحديث عن صمود الشعب الفلسطيني في غزة , الذي تحمل تكاليف انتفاضتين متتاليتين مع الشعب الفلسطيني في الضفة , إلا انه قد زاد على ذلك تحمّله لتكاليف ثلاثة حروب متتالية خلال ست سنوات فقط , إضافة للحصار والانقسام وترتب عليها من معاناة وضنك , وهذا الصمود المنقطع النظير لا ينبغي أن يغري المقاومة بالاستهانة بهذه المعاناة والتمادي في تحميل الشعب أكثر من طاقته , خاصة وأن بعض المظاهر السلبية التي ظهرت بعد الحرب الأخيرة كالهجرة من غزة تدق ناقوس الخطر الذي يجب أن يوقظ الجميع للعمل على توفير الحد الأدنى من مقومات الصمود خاصة الجانب الاقتصادي , فبدون صمود الشعب لن تجد المقاومة من يحتضنها ويوفر لها الغطاء والرجال والبيئة الداعمة للمقاومة . وهذا يقتضي أيضاً أن لا نرهق الشعب بحروب متتالية تستنزف قواه الاقتصادية والمعنوية بحيث تؤثر سلبياً على صموده وبالتالي صمود المقاومة , وهذا يعني أيضاً أن يتم توظيف أي جولة من جولات الصراع مع العدو الصهيوني في إطار خطة إستراتيجية شاملة لتحرير فلسطين , وضمن المشروع الوطني الجامع لتحقيق الأهداف الوطنية العليا للشعب الفلسطيني برمته , فالصراع مع العدو الصهيوني طويل الأمد وليس من الحكمة استنزاف قدرات المقاومة ومخزون الصمود للشعب في حروب متتالية بدون خطة إستراتيجية للتحرير ومشروع وطني متكامل يوّحد عناصر القوة للشعب الفلسطيني وعلى رأسها الوحدة السياسية والنضالية ، هذا المشروع الوطني يجب أن يكون قائما على أساس الثوابت الوطنية و مرتكزا على أرضية المقاومة الطريق الوحيد لتحرير فلسطين.


