على مدى الأعوام العشرين الماضية منذ تأسيس السلطة الفلسطينية في مثل هذا الوقت من العام 1994، مرت العلاقة أو لنقل الأدوار السياسية لحركة حماس في علاقتها بالسلطة او النظام السياسي الفلسطيني الحديث، بأربعة تحولات او تقلبات، أرى اليوم انه يجب العودة اليها لاستخلاص معالم الخبرة التاريخية لهذه التجربة، في محاولتنا اليوم الإجابة على ذات السؤال الذي طرح صيف العام 1994، على أعتاب التحول الكبير في مسار القضية الفلسطينية بإنشاء اول سلطة وطنية على أجزاء من أرض فلسطين.
أي علاقة بين السلطة الجديدة وحماس بعد هذا التحول وأي دور لهذه القوة الوازنة والصاعدة في ذلك الوقت؟ وهي لم تتجاوز عامها السابع، طفولتها ان شئتم، ولكنها ايدولوجية حتى العظم، وتفتقر الى الحد الادنى من الحس السياسي البراغماتي الذي كان يمكن بالاستناد الى خبرة ودهاء ياسر عرفات، ان يسهم بإنتاج نوع من الملاءمات المتبادلة، والتي تنحو بدورها للتوصل الى صيغة او تسوية ما للاتفاق على شراكة وطنية داخلية.
وهكذا لعلنا نشير هنا الى ان الخبرة الأولى لهذا الدور في غضون السنوات الست الاولى من عام 1994 حتى العام 2000. هي المعارضة للسلطة من موقع استمرار القيام بعمليات عسكرية مسلحة لإفشال المفاوضات بين عرفات ورابين، التي كانت تحقق تقدما في ذلك الوقت. ان التحول الثاني والذي سوف يستغرق نفس المدة تقريباً من العام 2000 اندلاع الانتفاضة الثانية حتى العام 2006، بإجراء الانتخابات التشريعية بمشاركة حماس لأول مرة. وكان يغلب على هذا التحول محاولة حماس الخروج من انغلاقها السابق ومعارضتها المجردة، مع بداية ظهور علامات وان لم تكن واضحة ومكتملة لنضوج سياسي في البحث عن ملاءمات سياسية مع عرفات، أولاً عبر هذا التحالف غير المعلن من جانب الطرفين في استخدام عرفات قوة حماس من وراء الستارة، خلال سنوات الانتفاضة المسلحة حتى اغتيال عرفات. وبعد ذلك البحث عن موقع ودور في بنية السلطة بالشراكة مع ابو مازن وفتح. والدور الثالث هو حسم السيطرة على السلطة في غزة والدخول فعليا في الانقسام الداخلي من العام 2007 حتى التوصل الى المصالحة في نيسان الماضي من هذا العام. وهذه المرحلة او التجربة الأخيرة الانفراد في حكم غزة هي التي تؤسس فيما بعد للدور المقبل لحماس.
ولكن قبل محاولة استشراق ملامح هذا الدور او ما يمكن ان نسميه التحول الرابع، وخصوصا بعد الحرب الأخيرة التي كانت بامتياز حماس هي الطرف الرئيسي فيها، دعونا نتوقف عند بعض الملاحظات فيما يخص هذه الخبرة الماضية والمشار إليها، بالنظر الى ان هذه الملاحظات هي التي تكون ما نعتقده عناصر النظرية التي تحدد توجهات حماس او طريقة تفاعلها او استجابتها للتحديات او الأزمات الناشئة، وهذه الملاحظات يمكن تلخيصها على النحو التالي:
ان حماس تملك مرونة واضحة في استعمال أوراق القوة لديها، استعمال توازن القوة العسكري هنا تحديداً كاتجاه شامل في استراتيجيتها، لتكيف هذه الاستراتيجية مع الدور المحدد الذي تحدده لنفسها في كل مرة، وهكذا اذا كان البارز في الدور الاول هو المقاومة المسلحة المؤطرة في سياق استراتيجية معارضة من خارج السلطة، اي ان اللاعب الرئيسي ومن له الكلمة هنا هو كتائب القسام اي الجناح العسكري، فإنه منذ حسم السيطرة على السلطة بالقوة العسكرية، فإننا يمكن ان نلحظ وان تبين ذلك فيما بعد، على انه انطباع مضلل. تراجع هذا الدور العسكري لمصلحة دور سلطوي دولاني بما يشتمل عليه ذلك من ممارسة الحكم السلطوي الفعلي وعقد التحالفات الاقليمية.
إن حماس سوف تواجه الانسداد السلطوي بداية العام 2014، بالتخلي عن هذا الدور والمصالحة مع فتح والسلطة في رام الله، وهذا الخيار صمد في الحرب الأخيرة. لكن السؤال اليوم ماذا بعد الحرب اذا كانت الحرب الاخيرة سوف يقدر لها ان تغير الواقع السياسي برمته؟.
والراهن أن هناك سيناريو واحداً سوف يحدد او يشكل اطار الدور المقبل لحماس في التشكيل المجمل والعام للنظام السياسي الفلسطيني، وهذا السيناريو المرن قوامه مواصلة التعاون او الشراكة، ولكن في الوقت نفسه عدم التخلي عن الصراع والمنافسة لتمرير قطوع ما خلفته الحرب من دمار، وهو حمل لا تستطيع حماس التصدي له. وهنا قد نشهد مرة اخرى انزياح وتراجع الدور العسكري لمصلحة السياسي، ولكن في اطار الحفاظ طوال الوقت على قدر من التأثير، بحيث ان خرجت حماس من الحكومة الشكل او الديكور الخارجي لا تفقد القدرة على ان تكون طرفا وازنا في الحكم.
والواقع إذا قدر للفلسطينيين إجراء الانتخابات مجدداً وكما هو متفق عليه، فإن حماس قد تراهن على فوز جديد بعد ان كانت شعبيتها قبل الحرب متدنية، ولذا فإن نتائج الحرب سوف تكون حاسمة ومحددة هنا. ولكن من المتوقع ان اداء الرئيس ابو مازن ونجاحه في الظهور باعتباره العنصر الرئيسي، الذي يستطيع ان يشكل نقطة التقاء توازن المصالح بين جميع الاطراف، واستثمار نتائج الحرب لإعادة وضع المشروع الوطني الفلسطيني على سكة جديدة بدعم اميركي واوروبي واقليمي، انما هو الذي سيظهر الصورة على نحو أوضح بشأن وجهة السفر القادمة، وإعادة تركيب التوازنات الفلسطينية الداخلية من جديد.
لقد حاربوا بشجاعة ونظرية قتال مبتكرة أدهشت شعبهم والعالم، وكأنهم في ذلك يصنعون بطولة لهم ولشعبهم، وهذا سوف ينعكس على شعبيتهم التي تبلغ اليوم مستوى غير مسبوق، ولكنني أظن ان حماس استطاعت ان تصنع البطولة الشعبوية، ولكن الرابح الأكبر في هذه الحرب هو الرئيس ابو مازن. وعليه اليوم فإن اختبار جماع قدرة الفلسطينيين على تسوية هذه المعادلة، هي في كيفية إيجاد صيغة من التوازن الرقيق او القلق ولكن المسيطر عليه والمنضبط، بين شقي هذه المعادلة: السياسية والشعبوية. وصهر هذا التعارض في إطار استراتيجية موحدة قادرة على الاستثمار، دون تعريض هذا التوافق الفلسطيني الذي ظهر في أبهى صوره في الحرب لأي اهتزاز. وهي لحظة حاسمة لإثبات جدارة القيادة كما قوة التحالفات كما القدرة على التفوق فوق كل التناقضات، وإدارة هذا التوازن الخلاق بين الفرص والمخاطر.


