يقول أصحاب النظرية الواقعية في العلاقات الدولية إن بنية النظام الدولي، بمعنى توازنات القوى العالمية فيه، هي التي تحدد سلوك الدول وليس رغبات قادتها. ويقولون أيضاً، إن النظام الإقليمي بطريقة أو بأخرى، هو امتداد للنظام الدولي. بمعنى أن إيران قادرة على الصمود بمقدار وقوف روسيا والصين الى جانبها. وإسرائيل قادرة على "العربدة" في العالم العربي بمقدار إسناد الولايات المتحدة لها. وتركيا بإمكانها فتح حدودها للقوى المعادية للنظام السوري بمقدار قبول او رفض حلفائها في الناتو لذلك. بهذا المعنى تخلق الدول القوية إقليمياً توازنات إقليمية تجبر الدول الأقل قوة منها في محيطها على الاختيار بين ان تتحالف مع هذه الدولة او تلك للحفاظ على بقائها.
اليوم تتنازع العرب ثلاث قوى إقليمية لا مهرب منها: إسرائيل، تركيا، وإيران. جميعها يسعى لتحديد مصير العالم العربي.
للدقة، النزاع في الإقليم العربي حتى بداية الثورتين التونسية والمصرية كان بين إسرائيل وإيران. لهذا عندما أسقطت شعوب تلك الدولتين النظامين فيهما، رحبت إيران على الفور بما جرى لأنها رأت فيه إضعافاً للدور الإسرائيلي في المنطقة بغض النظر ما إذا كانت الأنظمة الجديدة في تونس ومصر ستصبح جزءاً من محورها في الإقليم أم لا. إسرائيل بلا شك أدركت أن المتغيرات الإقليمية لا تخدمها، وأنها على أعتاب مرحلة جديدة عليها أن تختار فيها بين السلام أو الحرب.
الذي غير هذه المعادلة فعلياً هو دخول تركيا على ملعب الصراع. حتى ذلك الوقت لم يكن لتركيا مدخل حقيقي إلى العالم العربي. تحالفات الدول العربية غير المعلنة مع إيران وإسرائيل فرضت على تركيا أن تكون أكثر قرباً من المحور الإيراني. أولاً، لأن الشعوب العربية معادية لإسرائيل، وثانياً، لأن دولتين كبيرتين من حلفاء إيران في المنطقة، سورية والعراق على حدودها.
ما الذي تغير إذاً، حتى أصبحت تركيا طرفاً يصارع على النفوذ في العالم العربي؟
الذي تغير أولاً، أن مصر ما بعد مبارك كانت مرشحة لأن تكون دولة يحكمها الإخوان المسلمون. وثانياً، التدخل الخارجي الذي رعته دول الخليج في ليبيا وسورية. المتغير الأول خلق لتركيا حلفاء مباشرين في العالم العربي لا تحتاج لوسيط بينها وبينهم. حزب الحرية والعدالة التركي فلسفياً لا يبتعد كثيراً عن فكر الإخوان. والعلاقة بين حزب الحرية والعدالة التركي وبين جماعات الإخوان بتفرعاتها المختلفة كانت قوية قبل الثورات العربية. الإخوان من جانبهم رأوا في تركيا نموذجاً يمكنهم استنساخه بدرجات في العالم العربي، ورأوا فيها الحليف الأقرب لهم من بين جميع دول العالم لأسباب تاريخية بالطبع وأخرى أيديولوجية وتنظيمية.
الذي حدث ثانياً، أن استدعاء دول الخليج العربي للتدخل الخارجي في ليبيا ومن ثم في سورية مكن تركيا من الدخول على خط البلدين بشكل مباشر، وإن كان لافتاً وواضحاً أكثر في الحالة السورية. في ليبيا وافقت تركيا على التدخل على أمل أن الحركات الإسلامية التي قد تستلم السلطة قد تعوضها عن خسائرها المالية في ذلك البلد من خلال الاستثمارات التي قد تضخها تركيا فيه، لكنها في جميع الأحوال لم تكن تشعر بثقة أن لديها حلفاء موثوقاً بهم بين "الثوار". وإذا أضفنا إشكالية الجغرافيا، بُعد ليبيا عن تركيا، يمكن فهم سبب التردد التركي الأولي في التدخل في ليبيا. على النقيض من ذلك، لم تحتج تركيا للكثير من الوقت لفتح حدودها وخزينتها للعمل على إسقاط النظام السوري من خلال التنسيق مع دول الخليج.
لكن دول الخليج في الملف السوري منقسمة على نفسها. جزء منها كان مدفوعاً بالرغبة في إسقاط النظام السوري للحفاظ على التوازنات الإقليمية التي كانت موجودة ما قبل الثورتين التونسية والمصرية. ولم يكن هذا الطرف بأي حال معنياً باستبدال الخطر "الإيراني" بالخطر "الإخواني"، لهذا في الوقت الذي كان فيه هذا الجزء الخليجي يعمل على إسقاط النظام السوري بالتحالف مع تركيا، كان يعمل على إسقاط تيار "الإخوان" سواء في مصر أو تونس أو حتى ليبيا. الطرف الخليجي الآخر كان مدفوعاً بتحالفاته الدولية التي ترى في الإخوان عامل استقرار للإقليم وأن خلق دول تتبنى "الديمقراطية الليبرالية" في العالم العربي، دول مثل تركيا مثلاً، توفر طريقاً للصراع على السلطة بعيداً عن "الإرهاب" ولا تجعل منها بالضرورة معادية لمصالح الغرب في المنطقة. بين القطبين الخليجيين شاهدنا صراعاً شرساً على من يقود الائتلاف السوري المعارض، وبسبب هذا الصراع أيضاً - مصحوبة بالرغبة في إسقاط النظام السوري بأي ثمن - تم دعم الجماعات التكفيرية على تنوعها في سورية.
ما يهمنا هنا، أن تركيا وجدت منفذاً قوياً لتصبح طرفاً في معادلات الصراع الإقليمي عبر تحالفها مع الإخوان وأصبحت الى جانب إيران، وإسرائيل لاعباً أساسياً ثالثاً يقرر في مستقبل العالم العربي. في وضع كهذا، مع أي حلف على العرب أن يقفوا؟ مع إسرائيل، مع تركيا، أم مع إيران؟
تركيا فازت للحظة بمصر وتونس، لكنها خسرت مصر وقد تخسر تونس أيضاً إن لم تكن قد خسرتها فعلاً بعد إجبار حكومة النهضة على الاستقالة. الإخوان المسلمون لم يدركوا طبيعة الدور الخليجي وشعروا بأن وجود تركيا الى جانبهم فرصة تسمح بظهور اصطفاف ثالث من الدول في العالم العربي. هم بذلك فعلياً، وبغباء سياسي شديد اعتبروا دول الخليج خارج دائرة الاصطفاف الإقليمي. بشكل مختصر، الذين يريدون تقسيم العالم العربي مذهبياً يفضلون محاور تتبع تقسيماتهم المذهبية - السنة مع تركيا والشيعة مع إيران، والذين يريدون الاحتفاظ بأنظمتهم لا يهمهم التحالف مع "الشيطان" نفسه طالما أن التحالف معه يبقيهم في السلطة.
لكن أين مصلحة الشعوب العرب من كل ذلك؟
كل من له عقل يدرك بأن مصلحة العرب هي في تغلبهم على صراعاتهم المذهبية والعرقية، في استردادهم لأراضيهم التي تحتلها إسرائيل، في قضائهم على الجماعات التكفيرية التي تمزق بلادهم، في جعل التبادل السلمي على السلطة خيارهم الأول والأخير للحكم. هذا يخرج إسرائيل من إمكانية التحالف معها لأنها تحتل أراضي عربية، لكنه لا يخرج إيران أو تركيا من فرص التحالف معهما. بمقدار ما تسعى القوى الحية في الشعوب العربية لأن تستقل بقرارها، وبمقدار ما ترى مصلحة شعوبها بعيداً عن الأوهام الأيديولوجية، بمقدار ما يمكنها الاستفادة من تركيا وإيران. الشعوب العربية ليست مضطرة لأن تعادي إيران أو تركيا ويمكنها أن تسخر التاريخ المشترك مع البلدين لخدمة مصالحها. لكن، لأن السياسات تضعها الحكومات، ولأن الشعوب العربية ليست صاحبة قرار في بلادها، فإن الحديث عن ذلك سابق لأوانه ومجرد ترف ثقافي.


