تابع ابناء شعبنا باهتمام بالغ مداولات مؤتمر الاعمار الذي عقد بالقاهرة يوم 12/ اكتوبر حيث اتخذ المؤتمر طابعاً دولياً عبر مشاركة حوالي 30 وزير خارجية و 50 وفداً مثلوا منظمات وصناديق دولية واقليمية .
تعهد المشاركون بالمؤتمر بمبلغ 5.4 مليار $ للشروع في عملية اعادة اعمار قطاع غزة الأمر الذي تم به تجاوز المبلغ المطلوب من الحكومة الفلسطينية والمقدر ب 4 مليار .
وبالوقت الذي تعتبر ان هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المجتمع الدولي في معالجة آثار العدوان واعادة القطاع إلى الحياة بعد التدمير المنهجي المنظم الممارس من قبل دولة الاحتلال والذي طال الطاقات البشرية والبنية التحتية والقاعدة المؤسسية ، إلا أن المجتمع الدولي أخفق بالطلب من اسرائيل بالقيام بتعويض المتضررين ودفع فاتورة الاعمار تنفيذاً للقانون الدولي ومارس ذات العمل الروتيني الذي اعتاد عليه منذ تأسيس السلطة والقائم على قاعدة مفادها بالتزام المجتمع الدولي " المانحين " بدفع تكاليف فاتورة الاحتلال والخسائر التي يلحقها بأبناء شعبنا الأمر الذي حوله إلى احتلال " خمسة نجوم " ، بما أنه لا يدفع الاستحقاقات المادية والقانونية من وراء احتلاله ، ويحمل هذه الأعباء للمجتمع الدولي .
لقد استمر المجتمع الدولي بالإخفاق وأمعن في ذلك خاصة بعد مشاركة الامم المتحدة في آلية الرقابة على مواد البناء بشراكة السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية ، الامر الذي يعمل على شرعنة ومأسسة وتدويل الحصار في تقويض لكل المفاهيم القانونية التي تعتبره أي " الحصار " عقاباً جماعياً يجب انهاؤه وليس إدارته .
إن آلية الرقابة بالوقت الذي تطيل أمد الاعمار فإنها تجعل دولة الاحتلال هي المتحكم الرئيسي بها بما يتيح لها اتخاذ التدابير والاجراءات الرامية إلى تشديد الحصار إذا أرادت ذلك وعبر حجج ومبررات جاهزة لديها ، علماً بأن هذه الآلية ستؤدي إلى أخذ جزءً من المبالغ المحددة إلى المراقبين والمفتشين الدوليين على شكل رواتب وخبراء ونفقات إدارية ومواصلات واتصالات ومسكن هذا بالوقت الذي سينفذ به عدد لا بأس به من المشاريع عبر المؤسسات الدولية ومنها التابعة للأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية بما يساهم في اضعاف مؤسسات المجتمع الفلسطيني سواءً كانت رسمية أو خاصة او اهلية وبما يعزز من آلية الوصايا الدولية على عملية الاعمار ، خارج دائرة الشراكة والتي لن تتحقق بدون تشكيل هيئة مستقلة بمرسوم رئاسي تعمل على إدارة عملية الاعادة بصورة شفافة وعادلة .
تجربة علاقة شعبنا بالمانحين تبرز بأن هناك فرق ما بين المبلغ الموعود" التعهد " وما بين الالتزام و" التنفيذ " ، ورغم ذلك فإن الغريب ان نصف هذا المبلغ سيعمل على المساهمة في سد عجز الموازنة العامة للسلطة والتي يتجاوز ال 4 مليار $ ، بما يدفع إلى التساؤل إلى هذا السبب وغيره عقد مؤتمر الاعمار ؟؟؟
فإذا احتسبنا ان جزء من المبلغ سينفذ عبر المؤسسات الدولية والجزء الآخر " النصف " سيسد جزءً من عجز السلطة المالي ، علماً بأن اموال البلدان العربية سيتم تنفيذها بواسطة مؤسساتها العاملة في غزة الأمر الذي يثير تساؤلاً عن حصة المؤسسات الفلسطينية سواءً كانت حكومية أم قطاع خاص أم مؤسسات أهلية ؟؟ .
عندما كنا نطالب بتشكيل هيئة وطنية مستقلة للإشراف على عملية إعادة الاعمار لم يكن الهدف منها تعزيز الشراكة فقط وهذه مسألة ضرورية ومطلوبة لكل المكونات المؤثرة بالعملية الاغاثية والاعمارية والتنموية ،بل كنا ندرك أهمية حماية المجتمع الفلسطيني من أدوات التأثير الدولي " العولمة " التي تعتاش على الأزمات والحروب وتحصل على موازناتها على حساب الشعب أو المنطقة التي تعرضت للاضرار وذلك بدلاً من أن يتم توظيف جل التمويل لتمكين هذه المؤسسات التي تقوم بواجبها الوطني والاجتماعي لاسناد المتضررين وتعزيز صمودهم .
لقد لعبت منظمات العمل الاهلي ولجان المتطوعين الرياديين والمبادرين دوراً بطولياً اثناء العدوان وقامت بتوزيع المساعدات الطبية والغذائية على العائلات المشردة في مدارس الايواء وعلى ذويهم الذين استوعبوهم اثناء العدوان ،هذا العمل تم جنباً إلى جنب مع دور منظمات حقوق الانسان التي كانت طواقمها الميدانية تعمل أيضاً أثناء العدوان لتوثيق انتهاكات جرائم الحرب الممارسة من قبل الاحتلال .
إن منظمات المجتمع المدني تفاجئت من حالة الاقصاء المنهجي والمنظم الممارسة من قبل الحكومة الفلسطينية فبدلاً من اشراك المجتمع المدني في صياغة خطة الاعمار ووضع الملاحظات عليها وكذلك عبر اشراك ممثليه لحضور مؤتمر إعادة الاعمار، فقد جرى عزلة وتهميشه وعدم مشاورته وكأنه لم يكن بالمقابل تم اشراك وبصورة نسبية بعض ممثلين عن القطاع الخاص وبعض الشخصيات تحت عنوان " الخبراء " ، الأمر الذي يعكس عدم الايمان بمبدأ المشاركة وعدم التقدير للدور العظيم الذي قام به نشطاء المجتمع المدني اثناء العدوان وبظروف صعبة واستثنائية .
ظنت السلطة أنها وعبر العلاقة والتحالف مع القطاع الخاص تستطيع ان تدير وتشرف على عملية إعادة الاعمار وهذا ما دفعها إلى الاهتمام بالقطاع الخاص عند زيارة رئيس الوزراء السيد رامي الحمد الله إلى غزة والذي خصص وقتاً للقاء رجال الأعمال وممثلي القطاع الخاص وأهمل بالمقابل نشطاء وممثلي العمل الأهلي .
إن القراءة الأولية من نتائج مؤتمر اعادة الاعمار تبرز بأن الحصة الأكبر ستكون للمنظمات الدولية الأمر الذي سيبقى دور القطاع الخاص وشركاته محدوداً للغاية .
هناك ثلاثة أضلع لمثلث الاعمار والتنمية في أي مجتمع وبدون اكتمالها تصبح العملية يعتريها الكثير من الثغرات أما مكونات اضلع المثلث فهي " السلطة ، القطاع الخاص ، المؤسسات الأهلية " .
إن التركيز على علاقة السلطة مع القطاع الخاص يشير إلى الوجهة الاقتصادية لسياسة السلطة المبينة على فكرة السوق وآلية تراكم الربح والتي لا تتعامل باهتمام مع منهجية الرقابة والمشاركة التي تتبناها المنظمات الأهلية إلى جانب ما تتبناه منظمات العمل الاهلي من قيم مثل العدالة والمساواة والمواطنة وعدم التمييز كمبادئ أساسية ناظمة له ويناضل من أجل تطبيقها .
تجنب العمل الاهلي يرمي إلى تجنيب استخدام آلية الرقابة من قبله وإضعاف لها وإهمال وتجاهل دور السلطة " الدولة " بالحماية الاجتماعية عبر سياسات وموازنات مخصصة لصالح الفقراء والمهمشين من اجل تمكينهم وهذا ما يطالب المجتمع المدني به عبر آليات الضغط والتأثير وحوار السياسات .
إن دعم القطاع الخاص يجب أن يتم في اطار التوازن ما بين الربح والمنفعة المجتمعية تحت شعار " المسؤولية العامة أو الاجتماعية " ، وفي اطار رقابة المنظمات الأهلية ايضاً وبدون ذلك تصبح آلية السوق هي القانون الوحيد بالمدينة دون مراعاة لمبدأ الحماية والعدالة الاجتماعية .
وبالوقت الذي أرى أهمية مراجعة آلية إدارة عملية الاعمار فإنه بات مطلوباً ايضاً عدم السماح للشركات والمقاولات الاسرائيلية بالتربح من هذه العملية ، وهذا يتطلب التفكير بآليات وطرق اخرى ، منها الاعتماد على الاسمنت والشركات والمقاولات المصرية والعربية إن أمكن ذلك .
إن مشاركة الشركات ومواد البناء الاسرائيلية يعنى مكافئة الاحتلال مرتين مرة من خلال عدم محاسبته اثناء وبعد العدوان والمرة الثانية من خلال تمكينه لتحقيق الارباح الاقتصادية بدلاً من مسائلته.
لقد آن الأوان للبدء بحوار اقتصادي مجتمعي يضم ممثلي الحكومة والقطاع الخاص والعمل الأهلي وخبراء اقتصاديين وتنمويين لتحديد وجهة السياسيات الاقتصادية القائمة على قاعدة تضمن تعزيز صمود شعبنا في اطار استمرارية الكفاح الوطني في مواجهة الاحتلال على طريق ضمان حقوق شعبنا بالعودة وتقرير المصير والاستقلال الوطني والتنمية المستدامة الشاملة في اطار العدالة الاجتماعية .


