الدولة الفلسطينية والتي ينبغي لإقليمها أنْ يكون هو نفسه "الأراضي الفلسطينية" التي احتلتها إسرائيل في حرب 5 حزيران (يونيو) 1967، هي "حَقٌّ (قومي)" للشعب الفلسطيني، قَبْل أنْ تكون، ولجهة قيامها فحسب، "نتيجة نهائية" لمفاوضات سياسية، غايتها النهائية إنهاء النزاع بين طَرَفَيْه الإسرائيلي والفلسطيني؛ و"الحقُّ"، في حدِّ ذاته، لا يكون، ويجب ألاَّ يكون، مدار مفاوضات، أو جزءاً من اتفاقيات؛ وأَحْسَبُ أنَّ "تصحيح المسار (السياسي والتفاوضي الفلسطيني)" يمكن، ويجب، أنْ يبدأ بالأَخْذ بهذا المبدأ، والآن، أيْ في تشرين الأوَّل (أكتوبر) الجاري، حيث تَعْتَزِم منظمة التحرير الفلسطينية التَّقَدُّم إلى مجلس الأمن الدولي بطلب الاعتراف بدولة فلسطين على أنَّها "دولة كاملة العضوية" في الأمم المتحدة، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأراضي هذه الدولة بحلول تشرين الثاني (نوفمبر) 2016.
على مضض، قَبِلَت إسرائيل "حل الدولتين"؛ وكانت وجهة نظرها، التي أَيَّدتها، وما زالت تؤيِّدها، الولايات المتحدة، هي أنْ لا طريق إلى قيام الدولة الفلسطينية (المجاوِرَة لدولة إسرائيل على أرض فلسطين) إلاَّ طريق المفاوضات (الثنائية المباشِرة، التي لا تُعكِّر صفوها مقاوَمة حقيقية) بين الطَّرَفَيْن، ولو اسْتَغْرَقَت هذه المفاوضات قَرْناً، أو قروناً، من الزمان، واستمر، وتَعاظَم، في أثنائها، الاستيطان والتهويد؛ فإذا لم تتكلَّل المفاوضات بالنَّجاح الذي يريده الإسرائيليون، لن تقوم للفلسطينيين دولة؛ وكأنَّ حق الشعب الفلسطيني في "الاستقلال القومي" هو أَمْرٌ يجب أنْ يكون خاضِعاً للموافقة الإسرائيلية!
"الدولة" هي "حَقٌّ"؛ و"الحقُّ" يُعْتَرَف به أَوَّلاً، ولا يكون مدار مفاوضات، أو جزءاً من اتفاقيات؛ ولو سعى اليهود (القدامى والجُدُد) في فلسطين إلى قيام دولة لهم، من طريق مفاوضات سياسية مع الفلسطينيين، أو مع العرب على وجه العموم، لَمَا قامت دولة إسرائيل. لقد أَسَّست بريطانيا (في المقام الأوَّل) لقيام دولة يهودية في فلسطين (دولة إسرائيل) بعد اعترافها بحق اليهود في وطن قومي لهم في هذه الأرض؛ ثمَّ كان القرار الدولي الرَّقم 181 (قرار تقسيم فلسطين الصادِر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947) والذي بموجبه فحسب نالت "الدولة اليهودية (إسرائيل)"، مع "الدولة العربية"، شرعية الوجود الدولية.
مِنْ قَبْل، اعترف الفلسطينيون بـ "حقِّ دولة إسرائيل في أنْ تعيش في أمن وسلام، ضِمْن حدود مُعْتَرَف بها (فلسطينياً، هي الحدود المطابِقَة لخط الرابع من حزيران/ يونيو 1967)"؛ لكنَّ هذا الاعتراف لا يَعْدِل في معناه اعترافهم بإسرائيل على أنَّها دولة يهودية؛ ثمَّ قَبِلَ الطرفان "حل الدولتين"؛ ولقد بقي هذا الحل هدفاً عجزت المفاوضات، على طولها، عن بلوغه؛ لأنَّ إسرائيل (ومعها الولايات المتحدة) لم تَقُلْ، حتى الآن، إنَّها تعترف بحق الشعب الفلسطيني في وطن قومي، ودولة قومية، في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ ولأنَّ الولايات المتحدة (المنحازة إلى رأي إسرائيل في طبيعة وجودها في هذه الأراضي الفلسطينية) لم تَقُلْ، حتى الآن، إنَّ على إسرائيل أنْ تنهي احتلالها (الذي بدأ سنة 1967) للأراضي الفلسطينية، التي هي وطن قومي للشعب الفلسطيني، ويحقُّ لهذا الشعب، من ثمَّ، أنْ يقيم دولته القومية في هذه الأراضي.
لو كُسِوت عِظام "حل الدولتين" بهذا اللحم لأَمْكَن، عندئذٍ، بدء مفاوضات سياسية جادَّة، مدارها كل نِزاعٍ بين الطَّرَفَيْن، أو الدولتين؛ فلا مفاوضات كهذه قَبْل أنْ يُسْتَثْنى "الحق الفلسطيني في الاستقلال القومي" من "النزاع"، ومن "المفاوضات"؛ لكنَّ "تصحيح المسار (السياسي والتفاوضي) الفلسطيني" على هذا النحو هو أَمْرٌ لا يتحقَّق إلاَّ من طريق تشديد الحاجة لدى الولايات المتحدة وإسرائيل إلى السَّيْر في هذا المسار الجديد؛ فالضَّعْف الفلسطيني (والعربي) هو المسؤول في المقام الأوَّل عن انسداد اُفْق المفاوضات، وعن بقاء مجلس الأمن الدولي مُغْلَقاً في وجه "المطالب الفلسطينية"، وعن استمرار "الشرعية الدولية (التي تحظى بها الحقوق والمطالب الفلسطينية)" حِبْراً على ورق.
المأزق التركي في كوباني!
تركيا، العضو في التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة للقضاء على "داعش"، والعضو في حلف الأطلسي، والتي لها حدود مشتركة طويلة مع سورية، مَدْعُوَّة إلى خَوْض حرب برية (بمفردها) في شمال سورية لمَنْع سقوط بلدة "عين العرب (كوباني)" الكردية (السورية) من السقوط في أيدي مقاتلي "داعش"؛ فالضربات الجوية، وعلى عنفها وشدتها، لا تكفي وحدها لإنقاذ البلدة، التي فَرَّ معظم سكَّانها (الأكراد) إلى الأراضي التركية، من خطر السقوط؛ لكنَّ تركيا، التي تبدو متخوِّفة قَلِقَة من عواقب سقوط البلدة، والتي أجاز برلمانها دخول جيشها الأراضي السورية (والعراقية) واستخدام جيوش أجنبية الأراضي التركية للدخول إلى سورية والعراق، لا مصلحة لها في التَّدخُّل العسكري البري قبل أنْ تُلَبَّى لها جُمْلَة من المطالب والشروط، التي في مقدَّمها إقامة منطقة عازلة في داخل الأراصي السورية، يُحْظَر فيها الطَّيران، حمايةً للأراضي التركية، ومساعدةً للمدنيين السوريين الفارِّين من "داعش"؛ وما زالت الولايات المتحدة غير موافِقَة على إقامة هذه المنطقة، التي ترفض روسيا، أيضاً، إقامتها إلاَّ بقرار من مجلس الأمن الدولي.
مِنْ قَبْل، بَدَت أنقرة مُحْجِمَة عن التَّورُّط في "الحرب الدولية (والإقليمية)" على "داعش"؛ لأنَّ مواطنين أتراك كانوا مُحْتَجَزين (في العراق) لدى التنظيم؛ ولَمَّا تكلَّلت جهودها ومساعيها للإفراج عنهم بالنَّجاح، بَدَت مُسْتَعِدَّة للانضمام إلى هذه الحرب؛ أمَّا الآن فتبدو غير مُسْتَعْجِلة، مُنْتَظِرةً تلبية مطالبها وشروطها، قَبْل، ومن أجل، أنْ تَزُجَّ بجنودها في حرب برية، تريد إشراك دُوَلٍ أخرى فيها؛ ومع ذلك، رَسَمَت "خَطَّاً أحمر"، إذا تجاوَزَه "داعش"، قاتَلَتْهُ بمفردها؛ وهذا "الخط" هو ضريح سليمان شاه، جد مؤسس الدولة العثمانية، المُقام على قطعة أرض قُرْب حلب، تُعْتَبَر أرضاً تركية، ويحرسه جنود أتراك؛ ولقد قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنَّ تركيا ستَرُدُّ على أي اعتداء يتعرَّض له الضريح (من "داعش").
أنقرة تخشى التَّمَدُّد العسكري لـ "داعش"، وفي شمال سورية على وجه الخصوص؛ لكنَّ هذه الخشية لا تُضْعِف، ولا تُقلِّل، خشيتها من تَوطُّد التعاون العسكري والسياسي لدُوَلٍ غربية، في مقدَّمها الولايات المتحدة، مع إقليم كردستان في شمال العراق، ومع الأكراد على وجه العموم، ولو كانت الحرب على "داعش" هي الذَّريعة الغربية. وهذا التعامُل الغربي مع الأكراد على أنَّهم "حليف طبيعي" للغرب في الحرب على "داعش"، سمح لهم باكتساب مزيدٍ من القوَّة العسكرية والسياسية، وجَعَل مقاتليهم، في العراق وسورية وتركيا، يتبادلون الدَّعْم وكأنْ لا وجود للحدود بين الدول الثلاث؛ كما أنَّ أنقرة لا تَجِد فروقاً يُعْتَدُّ بها بين حزب العمال الكردستاني في تركيا، التي تضم نحو 15 مليون مواطن كردي، يتركَّز وجودهم في جنوب شرق البلاد، وبين "وحدات حماية الشعب الكردي" في سورية.
وأنقرة لا تَشْعُر بالارتياح لتدريب (وتجهيز وتسليح) قوَّة مُنْتقاة من "المعارَضَة السورية (المعتدلة)" في خارج الأراضي السورية، ويَسْتَغْرق تدريبها وإعدادها زمناً طويلاً نسبياً، مع أنَّ الضربات الجوية قد بدأت. وأحسبُ أنَّ أنقرة يحقُّ لها أنْ تخشى عواقب ضربات جوية في غياب "قوى أرضية سورية موثوقة (تُرْكِيَّاً)" في مقدورها الإفادة من هذه الضربات؛ وليس ثمَّة ما يمنع جيش بشار (وحلفائه) من أنْ يكون هو المستفيد الأوَّل والأكبر من إضعاف "داعش" بالضربات الجوية.
ونحن لو أَمْعَنَّا النَّظر في مطالب وشروط أنقرة للتَّدَخُّل العسكري البري (ولإنقاذ "كوباني") لَوَجَدْنا فيها تأسيساً لصلةٍ قويةٍ بين الحرب على "داعش" والحرب لإطاحة بشار الأسد؛ فأنقرة تَفْهَم "المنطقة العازلة" على أنَّها صنو التَّدَخُّل العسكري البري (والجوي) التركي، الذي تُشارِك فيه، أيضاً، وبالجنود، دول أخرى، وقوى المعارَضَة السورية، الموجود الآن على الأرض، والتي تحظى بثقة أنقرة؛ وتَفْهَمها، أيضاً، على أنَّها مَنْعٌ بالقوَّة لسلاح الجو السوري، ولمنظومة الدفاع الجوي السوري، من العمل حيث يعمل الجيش التركي في شمال سورية، وحيث يُركَّز، تدريجاً، وجود اللاجئين السوريين في شمال سورية؛ لكن التَّحدي الكبير الذي تواجهه أنقرة الآن، حيث لم تُلَبَّ مطالبها وشروطها بَعْد، هو أنْ تَعْرِف كيف تَمْنَع لهيب "كوباني" من الامتداد إلى الدَّاخل التركي المليء بكثير من الوقود الكردي، وغير الكردي.


